أغلقوا الأبواب على أنفسكم وليس على اللبنانيّين
النهار:
دَاوُدَ الصايغ
أغلقوا الأبواب على أنفسكم وليس على اللبنانيّين
هنالك من لا يعرف ربما أن وزير الدفاع الأميركي هو لبناني الأصل. اسمه مارك اسبر. ووالده توماس جوزف اسبر كما تقول سيرته "كان عضواً في الكنيسة المارونية"، وجده مهاجر من لبنان، أما والدته فهي من آل ريغان.
هذا بعض ما بين اللبنانيين وأميركا. وهو كثيرٌ وعريقٌ وعميقٌ ونبيل، ويمتد في جذوره إلى أواخر القرن التاسع عشر. يوم كانت أميركا، ولا تزال، بوابة الباحثين عن الأمل والحياة الفضلى. ديموقراطية عظيمة، ولا تزال حتى الساعة أعظم ديموقراطية في العالم. سياستها ظالمة أحياناً. وهذا أمر آخر. ظلمت فلسطين والعراق وأفغانستان وفيتنام... وتخلت بلحظات عن أكبر حليفٍ لها في الشرق وهو شاه إيران عام 1979. وظلمت لبنان في حروبه بين 1975 و1990، يوم كان هنري كيسينجر فاعلاً ثم مؤثراً في السياسة الخارجية الأميركية، وخطط يومذاك لحصر النار في لبنان طوال تلك السنوات لا لاطفائها.
إنها تتدخل في شؤوننا، كما يعلن خصومها في لبنان، وهذا غير مشروعٍ في رأيهم. مقابل شرعية التدّخل الإيراني ونظام الحكم السوري، فهم من أهل البيت. لا بأس أن أصبح لبنان ساحة صواريخ، باسم المقاومة، وتخلى عنه العالم كله، لا بأس، فالتوّجه شرقاً صوب إيران والصين أمر متاح.
تمهلوا قليلاً. فلم يُقَل كل شيءٍ بعد. ليس هذا هو لبنان، وليست هنالك من قوة تستطيع أن تأسره أو ترهنه لأكثر من وقتٍ معين. فهذا الارتهان هو حادث. حادث في مجرى التاريخ. تمهلوا قليلاً، اتضعوا واتعظوا.
سفيرة أميركا في لبنان هي التي قررت طي الصفحة. حصل ذلك من منبر الخارجية اللبنانية بالذات. هي التي صرّحت وقالت: "لقد طوينا الصفحة..."، صفحة ردود الفعل على تصريحاتها التي نتج منها في ما نتج ذلك القرار القضائي الذي انتهى أمره فور صدوره، فضلاً عن الشتائم اليومية التي لا تزال تُكال لها. هي التي قررت إقفال الملف. أتعرفون كيف؟ بشرعية سفيرة أكبر دولة في العالم، أكبر دولة صديقة. وذلك قبل أن تصطحب ذلك القائد العسكري الأميركي الكبير في تجوالاته على كبار المسؤولين اللبنانيين، ليقابلهم باسم أميركا. لأنه هو أيضاً في بيته وليس غريباً.
انتبهوا قليلاً. لبنان أعرق وأصلب وأقوى من أن يرتهن لجهة خارجية. ولجهة ليس له معها حدود. فالتاريخ على نحو ما يشهد في تحولاته ومسيراته العديدة لا يلبث ان يلفظ الشواذ. لأنه يعيد الأمور دائماً إلى مجراها الطبيعي. إذ ليس من الطبيعي اطلاقاً، بأي مقياس من المقاييس، أن يكون لإيران هذا النفوذ في لبنان. فإذا كانت هنالك اليوم كبوة لدى العرب، تعطل معها التضامن والتفاهم والمبادرة، فهذا لا يعني أن الساحة خالية. ويملؤها من يريد وفقاً لطموحاته وخططه التوسعية. ولعل أقرب درس في هذا المجال هو ما جرى للنظام السوري، الذي خطط للسيطرة على لبنان والتحكم بقراره، وهذا حصل ردحاً من الزمان، قبل أن ينكفئ بعد الأحداث المأسوية المعروفة التي أكرهته على الانسحاب، وذلك بسنوات سابقة للخراب السوري نفسه.
هذا عن الحدود الملاصقة وهي الوحيدة. فكيف بالحدود البعيدة التي لم يذكر تاريخ البلدين مرةً، ولا تاريخ المنطقة، أنه كان لإيران نفوذٌ في دول المشرق العربي.
على أن هنالك أمراً آخر، كان وراء حركة ومواقف ذلك المسؤول الفرنسي الكبير وزير الخارجية جان - إيف لو دريان الذي كان ألقى في مجلس الشيوخ الفرنسي خطاباً غاضباً متوجهاً إلى اللبنانيين قائلاً: "ساعدونا كي نساعدكم".
فالموضوعان صارا متلازمين. النفوذ الإيراني المتصاعد والذي يقفل أبواب الشرعية اللبنانية ويفتحها ساعة يريد ولمن يريد، والإصلاح المنشود والذي يلح علينا الغرب خاصة لتحقيقه. إن الغربيين يعرفون أن لبنان واقع اليوم في الارتهان، ويعرفون طموحات إيران في لبنان وفي سائر المنطقة. لكنهم يريدون المساعدة حيث هي ممكنة، خاصة بالنسبة إلى فرنسا، أخلص وأصدق دولة للبنان شرقاً وغرباً.
في ذلك اليوم من أيلول 2019 وقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في باحة قصر الاليزيه يتحدث في بيان رسمي مكتوب عن مشكلة الكهرباء في لبنان بعد استقباله رئيس الوزراء سعد الحريري. لم يرتفع يومذاك صوت في لبنان ليقول له لا دخل لك في شؤوننا، بالطبع لأنها فرنسا وشرعية صداقتها مع لبنان واللبنانيين هي من صلب التاريخ وصلب الحاضر.
وقبل ذلك يوم دعى الرئيس نفسه إلى مؤتمر سيدرفي نيسان 2018، لم يقل له أحد لا دخل لك في شؤوننا. إلى درجة أن هذا المؤتمر الدولي أصبح اليوم مرجع الحلول الوحيد لأولئك الفاشلين الجالسين على مقاعد الحكم ولحلفائهم أيضاً. خصصوا لنا أحد عشر مليار دولار، لكنهم قالوا لنا: أصلحوا أنفسكم. وحتى الآن لم نفعل شيئاً. لم يتحقق حتى الإصلاح القضائي الذي هو عملية داخلية محضة، أقرها مجلس القضاء الأعلى بالإجماع مرتين ووقفت بعد ذلك عند اعتبارات المصالح المتعلقة بالأسماء. لأن أسماء بعض القضاة، لدى من يُفترض فيهم توقيع المرسوم بحكم الصلاحية المقيّدة التي ينص عليها القانون، هي أهم لديهم بكثير من سمعتنا أمام العالم. ولكي نعطي برهاناً جديداً على أن لا أمل بالإصلاح على أيدي أصحاب المسؤوليّات الحالية.
والسؤال هو: "كيف يتعامل لبنان الحالي، لبنان الخرب، المفلس، ذو السمعة العالمية بالفساد والمرتبط بالمحور الإيراني - السوري، وقت العالم كله مُجمِع على محاسبة النظام السوري عبر قانون قيصر الأخير؟ كيف يتعامل لبنان الأمس المغروس في ضمائر الفرنسيين والأميركيين، مع غرب يمد يده إلينا، ونحن على هذا القدر من العناد في تغليب الأنانيات والمصالح والزبائنية كما حصل في التعيينات الأخيرة؟
لقد أصبحت بيننا وبين هذا الغرب مسافات أميال ضوئية. والذين قدر لهم مساء يوم الجمعة ذاك في 3 تموز الجاري أن يشاهدوا كيف تمّت عملية تغيير الحكومة في فرنسا بالحضارة والرقي وتراث جيل الأنوار، شعروا بالمرارة والحسرات تجتاح نفوسهم. لقد تركت لنا فرنسا الإرث الباقي من مكونات الدولة الحالية. كل ما لدينا اليوم من إرث قانوني وثقافي وإداري هو من صنع تلك الدولة الكريمة في عطاءاتها. لم تبخل يوماً وللذين تخونهم الذاكرة ربما، أتذكرون، بالأمس القريب جداً أن ايمانويل ماكرون وحده دون سواه من زعماء العرب والعالم، هو الذي عالج قضية رئيس الوزراء سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني 2017، بحزم سلطة الدولة الكبرى العضو في مجلس الأمن. فرنسا قبل ذلك، التي بفضل رئيسها الراحل جاك شيراك صدرت القرارت الدولية المتعلقة بالسيادة اللبنانية وخروج الجيوش والميليشيات، تلك المتعلقة باغتيال الرئيس رفيق الحريري والمحكمة الدولية. وذلك فضلاً عن مؤتمرات باريس الثلاثة من أجل لبنان. فرنسا تلك ودون الرجوع إلى ديغول وما قبله، أين هي اليوم من مآسي لبنان وفواجع اللبنانيين؟
إصلاحات قالوا لنا ؟ كلا. كيف يصلح الملح الفاسد. لقد فَسَدَ الملح. والأولياء مشغولون بهمومهم وأولها رئاسة الجمهورية ووراثة الرئيس ميشال عون، لدى انتهاء ولايته.
فهذا المشهد وحده كافٍ ليُحبِط كل من يريد مساعدتنا. صغار وطارئون وجهلة في شؤون تحمل المسؤوليات، يحاولون استبدال الغرب بالصين وإيران. يطرحون تغيير مائة عام من عمر الكيان، والذكرى على مقربة أقل من شهرين، ليمحوا من الذاكرة كل ما له علاقة بفرنسا وأميركا والغرب، ويأخذونا صوب ما يسمونه الشرق، وبذلك نقّض مضجع أميركا ودونالد ترامب! على نحو ما نسمع من دعاة هذا التوجه.
لكن لبنان الآخر، لبنان الأصيل، كان في بعلبك مساء الأحد في الخامس من الجاري ليذكّر الناسين بأن ذلك هو وجهه. وجه الحضارة، حضارة ما لديه وما حوله من التراث اللبناني المحفور في القلوب إلى العربي والغربي مع الفرنسي والإنكليزي والإيطالي والأميركي. أيام عز رحلت؟ كلا، هنالك من يحاول ترحيلها، ليُسدل علينا العزلة السوداء، والقلوب المغلقة. لن يُغلق باب في لبنان ما دامت هنالك قلوبٌ مفتوحة، وهذا ما لم يدركه أصحاب الدعوات إلى العُزلة والتوجه شرقاً. وما كان لبنان على كل حال ضد هذا الشرق. ولكن كانت له حرية اختيار ما ومن يريد، وليس فرض التحالفات الجديدة كُرمى لصراعات لا دخل له فيها.
فما لكم ولنظام الحكم، أتركوه جانباً. إنه أكبر منكم في أضعف الإيمان. فالأنظمة توضع لحماية الأوطان وليس لحماية الحكام.
اتركوا النظام جانباً فالتعديلات ليست هي العلة. أمس حمّلتم المسؤولية من سبقكم وتحدثتم عن السنوات الثلاثين الأخيرة متناسين إنجازاتها وإخراج لبنان من الدمار والركام وإعادة إحضاره في العالم وإعادة الثقة إلى نفوس أبنائه. واليوم، من فرط الفشل، لا تجدون غير نظام الحكم. إذ ما بقي لنا هو هذا النظام. نظام الحرية والدستور الأصيل وهو أحد أقدم الدساتير المعمول بها في العالم، والوفاق والانفتاح والعطاء والتبادل. فمن الأفضل لكم والحال هذه، أن تغلقوا الأبواب على أنفسكم وليس على اللبنانيين.