لمَ الخوف من قول الحقائق
لمَ الخوف من قول الحقائق
وسام القاضي
يتجنّب الكثيرون ممن يتعاطون مجالَي السياسة والإعلام نشر الحقائق، من خلال الالتفاف حولها خوفاً من إيقاظ فتنة، أو خلق سجالات تؤدي إلى الفتنة، مع العلم أن نشر الحقائق يُخمد الفتنة ولا يوقظها لأنها تُظهر للرأي العام الأمور كما هي، خاصةً وأننا نعيش في عصرٍ أصبحت فيه وسائل التواصل متاحة للجميع، ولا يمكن إخفاء أي خبر، أو معلومة، مهما بلغا درجة عالية من السرية.
لم يعرف لبنان عبر التاريخ مواقف موحّدة لشعبه. فالانقسامات في الآراء، والولاءات للمحاور الخارجية، كانت تطغى على الأوضاع في البلاد، بدءاً من عصر ولاة مصر، وعكا، والشام، إلى محورَي الانتدابَين الإنكليزي والفرنسي في المنطقة، مروراً بالحرب الباردة بين المعسكرَين الأميركي والسوفياتي، وصولاً إلى ما نعيشه اليوم من إنعكاسات لصراعات المنطقة، والمواجهة الأميركية- الإيرانية. لهذا كان منطق التسويات هو اللغة السائدة في حلّ النزاعات في لبنان بعد كل حربٍ، أو أزمةٍ تعترض البلاد.
من هنا تأتي إيجابية الطرح الذي نادى به البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي، حول ضرورة حياد لبنان. وهذا الحياد لن يكون خدمةً لإسرائيل كما يدّعي البعض لأن المزايدات على العداء لإسرائيل لا يُجدي نفعاً، وكفى محاولات البعض إجراء فحص دماء لمعرفة وطنية كل إمرىء يعطي رأيه الواضح والصريح فيما خصَّ الصراعات والنزاعات في المنطقة.
يجب الاعتراف بالتنوّع الفكري والسياسي لدى الشعب اللبناني. ومن المستحيل توحيد هذه الرؤية بالترغيب أو التهديد، حتى أن التجربة أثبتت أن الأزمة المعيشية والاقتصادية لا توحّد الشعب حول أسباب هذه الأزمة، تماماً مثل موضوع الفساد، أو شعار "كلّن يعني كلّن"، حيث كلّ مجموعة تستثني زعيمها من هذا الشعار، وبالتالي يجب الالتقاء حول النقاط المشتركة، وأولها عدم محاولة أي طرفٍ فرضَ سيطرته ونفوذه مهما عظمت قدراته المالية والعسكرية. فلا حزب الله يستطيع السيطرة على البلاد لمدى طويل وحكم البلاد بمفرده، ولا التيار العوني الذي أمضى أكثر من نصف ولايته في السلطة استطاع أن يجعل البلاد تسير وفق رؤيته وأهوائه.
لم تستطِع الدولة اللبنانية، وفي ظلّ حكومات الوفاق الوطني على أنواعها، أن توحّد كتاب التاريخ. وهذه معضلةٌ أساسية تُظهر مدى الاختلافات في الرؤية السياسية للأطراف اللبنانية على الأحداث والحروب التي شهدتها الساحة اللبنانية. فكيف سيتوحّد الشعب إذا كان كل فريقٍ له تاريخه النضالي الخاص به، والذي لا يعترف به الفريق الآخر. لا يمكن القفز فوق صفحات التاريخ، ولا يُمكن تزوير تلك الصفحات. وما الضير إذا ذُكرت الأحداث كما هي، أي من دون التطرّق إلى التخوين، وتوجيه أصابع العمالة. فحماية الوجود كان همّ كل طرفٍ في ظل عجز الدولة اللبنانية عن حماية شعبها، وكل طرفٍ استقلّ عسكرياً، ومالياً، وحتى سياسياً، إذ أصبحت له ولاءاته الخارجية ومن خلالها بيئته الحاضنة، وذلك عوضاً عن وجود دولةٍ حاضنةٍ، وضامنة للمواطنين من كافة النواحي السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.
إنها فرصةٌ متاحة اليوم للالتفاف حول طرح بكركي والتضامن معه. فالحياد هو من ضمن التسويات التي لا يعرف لبنان غيرها. فهذا البلد غير قادرٍ من خلال تنوّعه الديمغرافي أن يكون دولة مواجهة، تماماً مثلما بقيَ خارج الأحلاف والمحاور عبر التاريخ. وصحيحٌ أن الصيغة اللبنانية تسودها عدة شوائب، لكنها الحلّ الوحيد لبقاء لبنان. وإذا كان تحالف السلطة الحالية، أي عون – حزب الله يظنّ أنه قادرٌ على مواجهة المجتمع الدولي فهو واهم، لأن لا قدرة للشعب اللبناني برمّته على ذلك، وبنهاية المطاف سينتهي وجود لبنان بمجرد هجرة غالبية أبنائه.
إن الحياد الإيجابي والبنّاء هو رغبة غالبية الشعب اللبناني الذي يريد البقاء في هذا البلد، والعيش حياة كريمة. ولا بدَّ من الإتيان بحكومةٍ قادرةٍ على مواكبة القضايا المصيرية ومعالجتها بجدية كاملة، ولتتحمّل مسؤولية قرارتها، وليس كما تعمل الحكومة الحالية، حكومة الظل للثنائي الحاكم، حكومة الوقت الضائع.