دفاعاً عن حياد لبنان
النهار:
رمزي جريح
دفاعاً عن حياد لبنان
الحياد، ومعناه السياسي عدم الانحياز إلى هذه الدولة أو تلك؛ ظهر في لبنان لأول مرةٍ من خلال مضمون الميثاق الوطني، الذي أبرم عام 1943 وقام على أساس تنازل المسلمين عن طلبِ الوحدة مع سوريا والمسيحيين عن التمسك بالانتداب الفرنسي. وقتذاك اعتبر جورج نقاش أن "هاتين السلبيتين لا تصنعان وطنًا".
غير أن هذا الحياد لم يدُمْ طويلاً، ففي العام 1958 استهوت فريقًا من اللبنانيين، الوحدةُ العربية التي جسدها جمال عبد الناصر، وتخوَّفَ فريق آخر من انعكاساتها على استقلال لبنان وسيادته. واندلعت ثورة 1958، التي تسبب بها انحياز المعارضة إلى الناصرية واتهامها العهد بتأييد حلف بغداد؛ ثمَّ انتهت بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، فتمكن، بحكمته وتفاهمه مع عبد الناصر، من تحييد لبنان مرحلياً عن الصراعات التي كانت تعصف بالمنطقة.
اعتبارًا من العام 1968 عَجِزَ لبنان عن تجنب الخيارات التي ألزمته إياها المقاومة الفلسطينية، حينَ أَرغمت سلطتَه الضعيفةَ حينذاك على إبرام اتفاق القاهرة في العام 1969. وانعكس ذلك سلبًا على النظام السياسي اللبناني وعلى سيادة الدولة، فبرزَت فكرة الحياد نظامًا سياسيًّا دائمًا للبنان. وأذكر أن صديقي خليل أبو حمد، أثناء توليه وزارة الخارجية في مطلع العام 1970، كان من أشد المتحمسين لهذه الفكرة؛ حتى إنه أعدَّ لها مشروع قانون مرفقًا بأسبابه الموجبة عثرت عليه أخيراً في محفوظاتي. كما أذكر أنني تناقشت فيه كثيرًا مع خليل، وكنت من مؤيديه، إلى جانب عدد من السياسيين والمفكرين، الذين كانوا يعتبرون الحياد الدائم أفضلَ نظام للبنان، لأنه يبقيه خارج النزاعات المسلحة ويؤمن له الاستقرار والسلام.
حديثاً أسرّ اليّ الوزير سجعان قزي أن صديقنا المشترك خليل أبو حمد حاول مع الأستاذ ميشال إده تسويقَ هذا المشروع لدى الرئيس بشير الجميل وأقنعاه بتبنيه.
لم يكتب لمشروع الوزير أبو حمد أن يرى النور أثناء ولاية الرئيس أمين الجميل بسبب الظروف التي رافقت العهد، وما تخلله من انقسامات لم تكن تسمح باعتماد نظام الحياد الدائم، على رغم ان حزب الكتائب كان منذ العام 1959 يدعو الى هذا الحياد.
وفي العام 1990، عندما أبرم اتفاق الطائف الذي وضع حدًّا للحرب، اقتصرت تعديلاتُه الدستورية على مقدمة حسمت نهائية الوطن اللبناني وهويته العربية، وتعديلٍ في صلاحيات رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. وكانت الفرصة سانحةً وقتذاك لطرح مشروع حياد لبنان، ولتكريسه في الدستور، على أن تكون الدول العربية المشاركة في الطائف ضامنةً له؛ لكنَّ النواب فوتوا هذه الفرصة ولم يتناولوا موضوع الحياد في مناقشاتهم.
بعد الطائف، خلال عهدَي الرئيسَين الهراوي ولحود، كانت سوريا مهيمنة على الوضع في لبنان ولم يكن بالإمكان البحثُ في أي تعديل دستوري لإقرار الحياد، إذ كانت الوصاية ترفض ذلك رفضًا قاطعًا.
وعقِبَ انسحاب الجيش السوري في العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ابتعد لبنان أكثر عن فكرة الحياد؛ فكانت حرب تموز من العام 2006 التي انفرد حزب الله بقرار خوضِها، فدفع الوطنُ كلُّه ثمنَها شهداءَ وخرابًا، واندفع بعدها تدريجاً نحو محور الممانعة، اندفاعًا أدّى أخيرًا إلى عزله عن محيطه العربي. وقد عارضت أحزاب 14 آذار سياسة حزب الله، من غير أن تطرح صراحة الحيادَ الدائم نظامًا بديلًا.
إثرَ اتفاق الدوحة حاول الرئيس ميشال سليمان التأقلم مع هذا الوضع، إلى أن أدرك في النصف الثاني من ولايته مخاطره على استقرار لبنان، فدعا إلى طاولة حوار، حضرتها جميع القوى السياسية وصدر بنتيجتها بالإجماع في 11/6/2012 إعلان بعبدا، الذي نصّ بنده الثاني عشر على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي". هذا التحييد مختلف جدًّا عن الحياد الدائم، فهو دعوةٌ إلى اعتماد سياسة النأي بالنفس، وليس مشروع نظام دائم معترف به دوليًّا؛ لكن، على رغم ذلك، فإنَّ انخراط حزب الله في النزاع السوري كان بمنزلة ورقةِ نعيٍ حتى لفكرة النأي بالنفس.
وكان أن أطلق البطريرك بشاره الراعي أخيراً مبادرة شجاعة وحكيمة تنادي باعتماد لبنان "نظام الحياد الناشط والفاعل"، متجاوزًا في طرحه سياسة التحييد والنأي بالنفس، داعيًا إلى الحياد نظامًا سياسيًّا دائمًا ومعترفًا به دوليًّا. وقد تجاوبت مع مبادرة البطريرك الراعي مراجع دينية كالأزهر الشريف ودار الفتوى، وغالبية القوى السياسية، المسيحية والمسلمة على حدّ سواء، باستثناء حزب الله؛ ووافق عليها رئيسُ الجمهورية موافقةً مشروطةً بالتوافق الوطني، أما الرئيس برّي فلم يتخذ موقفًا مباشراً بعد.
والحقيقة أن هذه المبادرة تدعو إلى نظام الحياد الدائم، الذي إذا اعتُمِدَ في الدستور، أمكنَ السعي إلى تبنيه من قبل الدول الكبرى والأمم المتحدة. وبمقتضاه يمتنع لبنان عن إعلان الحرب أو تأييدها أو المشاركة فيها ضد أي دولة أخرى؛ على أن تحتفظ الدولة اللبنانية بحقها في الدفاع عن اراضيها ضد اي اعتداء واستعادة ما احتلته إسرائيل منها (مزارع شبعا). كما من واجبها، في ظلِّ الحياد، تعزيز قدراتها العسكرية، تمامًا كما فعلت سويسرا، الدولةُ المحايدة، التي طبَّقت الخدمة العسكرية الإلزامية، وزادت تسليح جيشِها للدفاع عن استقلالها وسيادتها. ومنذ أن انضمَّت النمسا إلى الأمم المتحدة، لم يعد من تمانعٍ بين الحياد والانتماءِ إلى هذه المنظمة؛ فلا شيء يمنع لبنان المحايد، من البقاء كذلك عضوًا في الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية، وفي جامعة الدول العربية.
ولكي يتحقق ذلك على صعيد الواقع، لا بدَّ من تعديل دستوري بإضافة بند إلى مقدمة الدستور ينص على ما يلي:
إن لبنان، تأكيدًا لاستقلاله الناجز تجاه الخارج، ومن أجل الحفاظ على سلامة أراضيه، يعلن بإرادته الحرة حياده الدائم. وهو مصمم على الحفاظ على هذا الحياد والدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة.
وهو، من أجل تحقيق هذا الهدف، يعلن أنه لن ينضم في المستقبل إلى أي تحالف عسكري ولن يسمح بإقامة أية قواعد لقوًى عسكرية خارجية على أراضيه.
أما القول بإلزامية التوافق الوطني على مسألة الحياد، فشرط تعجيزيٌّ يستحيلُ تحقُّقه إذا قُصِدَ به الإجماع ، ويتعارض أيضًا مع أصول تعديل الدستور التي حددتها المادة 79، من حيث النصاب الواجب توافره في اجتماع مجلس النواب (ثلثا الأعضاء الذين يؤلفون المجلس) ومن حيث الأكثرية المطلوبة (الغالبية نفسها). فإذا اقتنعت أكثرية وازنة من القوى الممثلة في مجلس النواب، بملاءمة نظام الحياد الدائم للبنان، وتوفر النصاب والأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور، لم يعد جائزًا لأقلية أن تقف حاجزًا دون اعتماد هذا النظام؛ خصوصاً أنها لم تشترط إجماعًا، ولا حتى توافقًا وطنيًّا واسعًا، عندما جرّت البلاد إلى الانحياز نحو محور الممانعة، فكيف لها أن تحول وحدها دون اعتماد نظام الحياد الدائم؟؟
وهل نحن بحاجة إلى التذكير بأن من شأن نظام الحياد الدائم أن يجلب للبنان منافع كثيرة، ليس أقلها دعم استقلاله وسيادته، وإقصاء الصراعات الدولية والإقليمية عن أرضه، وتجنيبه الأزمات السياسيىة والحكومية، التي غالبًا ما تكون أسبابها خارجية؛ فضلاً عن أن هذا النظام، ليس حيادًا جامدًا، بل "ناشط وفاعل"، على حدّ تعبير البطريرك الراعي، بمعنى أنه لخدمة السلام في المنطقة والعالم، بحيث يستعيد لبنان بواسطته دوره الرائد، مساحةً للتلاقي وحوار الحضارات، ومقرًّا للمكاتب الإقليمية للمنظمات الدولية، ومركزًا اقتصاديًّا وماليًّا مشجعًا للاستثمار.
لقد عانى وطننا على مرّ الأيام حروب الآخرين على أرضه، فحان الوقت ليصبح واحة سلام وحوار.
https://newspaper.annahar.com/article/1249163-دفاعا-عن-حياد-لبنان