صوت السقوط
النهار:
سمير عطالله
صوت السقوط
الرجل دائماً فريسة حقائقه".
البير كامو
في السياسة، كما في الطبيعة، تختفي موجات وتظهر اخرى. وكما تختل الطبيعة، في ظواهر لا تفسير لها، تختل حركة الأمم، وتصاب الشعوب بالاوهام ويهدها الوهن واليأس، فتضيّع اسس الاختيار، وتراهن على ثقافة المقامرة، ويحل الرهان محل حسابات الحقيقة
راهن الاميركيون في لحظة ضعف على رجل لم يتسلم اي عمل سياسي أو وطني في حياته. جاء، كما روى، من عالم الصفقات، وثقافة الربح الكبير والخسارة الكبرى. وبعد ولايتين من باراك اوباما، "المسلم" الاسمر، وعد ترامب الرجل الأبيض بأن يعيد إليه المبادرة، وبأن يحميه من الإثنيين الزاحفين من الجنوب، البنلادنيين الضاربين في ابراج نيويورك. كما وعد بالحاق الهزيمة باشتراكية اوباما، والميول اليسارية لدى الأقليات، ووقف المد الصيني، ونقل عاصمة اسرائيل من تل ابيب الى القدس.
وصل ترامب الى البيت الأبيض فيما تجتاح العالم المتعب موجة من الشعبويات الشبيهة بتلك التي اجتاحته في ثلاثينات القرن الماضي. لقد ادت امراض اوروبا الى ظهور جنوني لحركات قومية وعنصرية مثل النازية والفاشية والعصبية اليابانية. وها هي تعود الى الظهور والانتشار بعد سقوط الشيوعية التي حاولت صد القوميات وصهرها. وحل "الخطر الاسلامي" محل "الخطر الشيوعي" في تحفيز اليمين وإثارة شعاراته الماضية ومخاوفه الدائمة من المهاجرين والتغير الديموغرافي و"نهج الحياة"، كما سماه جورج بوش الإبن بعد هجوم 11 ايلول.
من الطبيعي ان الموجة الشعبوية في اميركا فاقت مظاهرها ودرجاتها في اي بلد آخر. فالسرعة الاعلامية هنا لا مثيل لها. وفوق ذلك كله كانت هناك شخصية دونالد ترامب. وفي كتاباته عن الديموقراطية (محاضرة الندوة اللبنانية) كان الراحل حميد فرنجية يستشهد بقول هنري برغسون عن ان الطابع الشخصي Le caractere هو الأكثر اهمية في الممارسة الديموقراطية.
هنا وقعت الديموقراطية في يد رجل يسخر من معوقاتها. ولم يتردد لحظة في ابداء اعجابه بفلاديمير بوتين وسواه من رؤساء مدى الحياة. ورأى في حفيد كيم ايل سونغ صديقاً له، وتعامل مع صحافة اميركا ونخبها ومناخها الاكاديمي على انهم اعداء له، وبالتالي، لأميركا
لا تعيش الشعبوية طويلاً، وتنتهي دائماً بالدموع، كما كتب النيجيري جيدونو تشودي. لكن عوامل كثيرة تتجمع في حياة الشعوب وتاريخها، فتلتحق لفترة من غياب الوعي، بمن يقودها الى الدمار والدموع. دعي ونستون تشرشل مرة الى المانيا ليشاهد العرض العسكري الذي اقامه القيصر وليم الثاني العام 1906. وعاد ليكتب اروع ما كتب تحت عنوان "الروعة الالمانية": خوذات ذهبية تلمع، وسيوف تبرق، وجنود تقاس بطول خطوتهم المقاييس. وعندما عاد الى المانيا بعد هزيمتها في الحرب الأولى، وجد طوابير من الجنود الجائعين، يستسلمون من اجل صحن من الحساء. لكن مرة أخرى عادت المانيا العبقريات فسارت خلف دهان فاشل ورسام فاشل وعسكري خائب.
الديماغوجي لا يصغي الاّ لنفسه أو لنوعية معينة من المستشارين. اختار جون كينيدي للبيت الأبيض اهم العلماء وكبار المؤرخين، ولإدارته اهم الصناعيين والاساتذة الجامعيين. واحاط نفسه بأهل هارفارد وبرنستون وستانفورد. وجعل ترامب صهره الناشىء كبير مستشاريه في قضايا اميركا وقضايا البشر
موسوليني ايضاً جعل صهره كبير مستشاريه: وخلط ترامب بين ابراجه وملكية البيت الأبيض. وهتلر لم يكن له ابناء، ولا اشقاء ولا شقيقات، ولذا لم يُروا من حوله.
يخترع الديماغوجي اعداءه قبل اي شيء. فإن عليه ان يشتم احداً ما، كل يوم. وان يكونوا من الكبار، بعكس حلفائه الذين يختارهم دوماً من الصغار والمجهولين، والذين من دونه لا يساوون شيئاً. لا يطيق الديماغوجي اي انسان آخر في الضؤ، لأنه مسكون دائماً بالخوف والخسارة. ومثل الاطفال يرفض فكرة الهزيمة. ولذلك، لا يقرأ إلا في كتاب واحد هوتعاليم ماكيافيللي. ولا ينتبه ان المكيافيلليين يخسرون رابحين، ويربحون خاسرين، ولا يَخَدَعون الا عندما تكون الشعوب في ازمات وامزجة سوداء وتراجع حضاري حاد. وفي مثل هذه الحالة من الوهن واليأس وتتالي الخيبات، تصدق الشعوب خادعها وتكذب نفسها، وتقاتل في سبيل الوهم بدل الحقائق، وتكون خسائرها عظيمة.
كل ديماغوجي يعطي نفسه هالة مقدسة لكي يحميها من النقد. وعلى الناس ان تنتخبه بسبب تفوقه لا بسبب برنامجه. وإذا ما اخفق، فالاخفاق دوماً من صنع سواه.
لذلك، ضاعت ولايته الأولى في الصخب والصراخ. وفوز "النعسان جو" كان في معظمه هرباً منه، اكثر مما هو اختيار لرجل في الثامنة والسبعين لقيادة اميركا في حالة شبيهة باثار الحروب الكبرى. وهذه الحالة تشل العالم كله، الا الصين، التي لا تكف مؤشراتها عن التصاعد.
ولاية أخرى تتبخر في هباء الكلام والغضب. تمر الموجات الشعبوية بالأمم كالأعاصير، تقتلع كل شيء، وفي النهاية تقتلع صاحبها. لكن آثار الخراب والدمار تبقى الى ما بعد ذهابه بكثير . ولا يبقى من ولايته سوى ذكرها كمضرب مثل في كثرة الكلام. وندرة الإنجاز.
تلك هي اهمية الفرد في هذا العالم وأهمية اختياره، خصوصاً حيث الاختيار حق. تجاوز ترامب جميع مقاييس النظام الديموقراطي الذي اعطاه فرصة دخول التاريخ الى جانب روزفلت ولنكولن، وظل في عرض عام مثل اي مروّج عقارات. رجل منتفخ بذاته وكل شيء آخر قابل لقانون "الصفقة". والصفقة لا قانون لها ولا روح ولا قلب، ولها قاعدة واحدة هي الاقتناص، وغاية واحدة هي الوصول، وبعد الوصول المحاربة من اجل البقاء. لكن المشكلة مع ترامب انه رئيس اميركا، وليس بيلاروسيا او المجر. أو بولسونارو الذي في البرازيل، والذي قال في عراضة فاشية تافهة ان البرازيليين لا يصابون بالجائحة. وبعد ايام اجتاحت كورونا البلاد وقتلت عشرات الالوف واصابته، هو وزوجته.
هل سوف تتراجع تلك الموجة من الغضب الفارغ والضحالة الفكرية التي عمت العالم؟ ليس بسهولة. فالعقل الذي يقول باقتناع ان البرازيليين محصنون ضد كورونا، سوف تكون نظريته متشابهة الى كل الاشياء. لم يكن ترامب مقتنعاً فقط بأهليته لحكم بلد مثل اميركا، بل أن ليس من مؤهل سواه. وقد طرد كل من حوله من مستشارين ومسؤولين حاولو نصحه، مستبقياً صهره، الذي يتمتع بخبرة مشابهة في العقار، ومن بعده درجت تسمية الاصهار في المناصب. والاسبوع الماضي استقال صهر رجل طيب اردوغان كوزير للمال بعدما اصبحت الليرة التركية في قيمة الليرة اللبنانية.
كان اردوغان نموذجاً آخر من نماذج التأله الفاشي. وكيفما خطى اشعل ناراً جديدة، محاولاً استعادة الماضي الانكشاري من البلقان الى اليونان إلى طرابلس الغرب وطرابلس لبنان.
صف طويل من الشعبويين الذين يقولون كل شيء ولا يفعلون شيئاً. وفي آخر الدنيا وبلاد المزارع والحليب تعطي جاسيندا اردرن امثولة عظيمة في الحكم. اعادت نيوزيلندا انتخابها بأكثرية ساحقة لأنها قدمت ابهى نموذج للحكم والإدارة والشجاعة والترقي.
يضيّع الشعبويون بلدانهم في اللغو والنميمة. ويضيِّعون عمر الدول ومستقبل الشعوب بين ايدي المخبرين الصغار وتفاهة المحاسيب والطفيليين، ولا تعود القضية الكبرى بقاء الوطن، بل بقاء الشخص. ولا الحزن هو الحزن الوطني، بل زعل الشخص. وهكذا تزول بلدان وتضمحل شعوب ويكبر المشهد المأساوي الحزين، في سبيل، أو بسبب رجل واحد. بولسونارو.
الويل للشعوب التي تعميها المشاعر الصغيرة والافكار الصغيرة عن قضاياها الكبرى. فهي تفيق دائماً على صوت السقوط وضجة الندم. ومن كانت تظنه مخلصاً، قادها الى الهاوية. مسار طبيعي يتكرر في جميع الازمنة وكل الامكنة. الحكمة تحمي من الندم، والوعي ينجي من التجربة.