النهار:
فارس خشان
في توصيف رئيس الجمهورية اللبنانية المُهانَة
1- عندما تنهال الإهانات الدولية والدبلوماسية على المسؤولين والقيادات اللبنانية، يستحيل أن نمتنع عن التأمّل في ما آلت إليه أحوال موقع رئاسة الجمهورية.
صحيح أنّ رئيس الجمهورية لا يتحمّل وحده مسؤولية الكارثة المأسوية التي حلّت على لبنان، ولكنّ الصحيح أكثر أنّه يتقدّم على غيره، وفق قاعدة "الغُنم بالغُرم"، لأنّه وحده دون سائر المسؤولين أقسم اليمين على حفظ البلاد ووحدتها، وأخذ ما يكفي من صلاحيات ليكون الحَكَم العادل الذي يسهر على مصالح المواطنين.
إنّ توالي الإهانات، وكانت أحدثها تلك التي تضمنتها الرسالة الوداعية للسفير البريطاني في بيروت كريس رامبلنغ، لا يعني سوى أنّ موقع رئاسة الجمهورية، في ظل هذا العهد بالتحديد، يعاني من خلل خطِر.
في أصول القيادة التي هي جزء من العلوم السياسة، يتحمّل المسؤول تبعة ما يقوم به مرؤوسوه، فخطؤهم هو خطؤه، وتقصيرهم هو تقصيره، وفشلهم هو فشله، وانقسامهم هو عجزه، وتناحرهم هو انعدام كفاءته.
ولهذا، فإنّ رئيس الجمهورية هو المعني الأوّل بالإهانات الدولية والدبلوماسية، خصوصاً وأنّه، وفق أحكام الدستور" رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن".
وتتفاقم المأساة عندما لا يشعر الرئيس بذلك، وهو بدل أن يحمي موقعه يحتمي بآخر معاقله، وبدل أن يدافع عن شعبه يكتفي باستثارة غريزة فئة منه، وبدل أن يسدّد الخطى يبددها، وبدل أن يأخذ المبادرة ينتظرها، وبدل أن يجسر الهوّة يعمّقها، وبدل أن يتصدّى للتدخّلات الخارجية يستدعيها.
-2-
لم يعرف لبنان وضعاً مأسوياً كالوضع الذي هو عليه حالياً. المسؤولون الدوليون يصفون الأزمة الراهنة بأنّها "الأسوأ في تاريخ البلاد" والشعب اللبناني كذلك.
وإذا كانت أزمنة الرخاء، تستطيب الصراعات السياسية، فإن أزمنة المآسي تنبذها.
هذا يعني أنّ أيّ رئيس للجمهورية يستحق لقبه ومنصبه وصلاحياته، أمام هذا الواقع، يعمل كل ما يمكنه لشدّ الهمم وتوحيد الجهود، تخفيفاً من حدّة الأزمة بداية وخروجاً منها لاحقاً.
إلّا أنّ عكس ذلك يحصل في لبنان، إذ تحوّلت الكارثة الى فرصة لاصطياد الخصوم السياسيين، وتوسيع النفوذ، وتعزيز المكاسب، و"شدشة" الأطماع، وتضييع الفرص، ومضاعفة "النكايات".
لم يتعلّم رئيس الجمهورية من التجربة المديدة والعمر الطويل. لم يسأل نفسه عن مسؤوليته في صناعة الأزمات. لم يراجع الأسباب التي تُدخل البلاد في كوارث كبيرة، كلّما تسلّم مسؤولية كبيرة.
لولا صمت المدفع، لانعدمت الفوارق بين زمن ميشال عون، حين كان رئيساً للحكومة العسكرية الإنتقالية، وبين زمن رئيس الجمهورية ميشال عون: جوع، مقاطعة، وباء، يأس، فقر، دمار، إنقسام، هجرة وشعارات طنّانة.
-3-
ماذا يريد ميشال عون؟
يجيب مؤيدوه بترداد الشعارات الطنّانة إيّاها. بعضهم يصدّقها ولكنّ غالبيتهم لهم مصلحة في اعتمادها.
ولكن لنترك النتائج تتحقّق من سلامة النيّات: ماذا تكون إذا أردتَ الخير فحلّ الضرر، وإذا اردتً طهي الخبز فأنتجتَ البحص، وإذا أردتَ المساءلة فانتشر الفساد، وإذا تغنّيتَ بالدولة فاشتد عود الدويلة، وإذا عملتَ لغد أفضل فوجدتَ كارثة، وإذا قلتَ بالحاجة الى حكومة فوجدتَ نفسك تحرس الفراغ، وإذا روّجت نفسك أباً للجميع ولكنّك، بالمحصلة، حصرتَ اهتمامك بمصالح صهرك ومشاكله الشخصية والحزبية؟
في هذه الحالة، وعلى وقع الإهانات الدولية والدبلوماسية التي تبني نفسها على أنين الشعب ووجعه وخوفه، ألا تفرض النتائج نفسها على المسؤول؟ ألا تدفعه دفعاً الى أن يُقارن بين أمنياته والمعطيات، وبين نياته والثمار؟
وفي هذه الحالة أيضاً هل يعقل أن يتصرّف المسؤول كالأطفال، فينسب كل ما يحصل الى أخطاء الآخرين، مهما كانوا أشقياء؟ حتى لو صحّ ذلك، كيف يمكن أن يسهو عن باله أنّه سبق له أن استرضاهم، بالصفقات والوعود، حتى ينصّبوه رئيساً، بعدما كان قد قال فيهم ما لم يقله مالك في الخمرة؟
ألم يجد من يضع أمامه جدول مقارنة، ليميّز بين ما كان عليه لبنان، في عهد ميشال سليمان الذي وصفه بالرئيس الضعيف وأمعن في محاربته، وبين ما آلت إليه الأوضاع في "عهده القوي"؟ ألم يجد من يطرح عليه الأرقام التي تبيّن أن لبنان حتى في زمن الفراغ الرئاسي كان أفضل بعشرات الأضعاف ممّا هو عليه في زمنه؟
هل يعقل أنّ ميشال عون الذي يطمح الى نشر ثقافة السلام والتعايش والرخاء في العالم يتغاضى عن إمعانه في نشر ثقافة الحرب والتناحر و"التعتير" في بلاده؟
ألم يجد ضرورة لمراجعة نفسه، وهو يرى أنّ لبنان الذي استلمه كان جنّة مقارنة بلبنان الذي صار عليه؟
-4-
قد لا يكون هناك في طاقم المسؤولين من هو أفضل من ميشال عون، ولكن ليس بين هؤلاء من هو رئيس للجمهورية. رئيس الحكومة يُطاح به كما يطيح الهواء الخريفي بورق الشجر الصفراء، وكذلك الأحزاب التي تعارضه، ولكنّ رئيس الجمهورية ثابت في موقعه، هو ومن يدعمه.
أليس هو من تسنّت له فرصة تشكيل حكومة بلا سعد الحريري وبلا وليد جنبلاط وبلا سامي الجميل وبلا سمير جعجع، فإذا بهذه الحكومة تهدر أثمن الأوقات وتهمل أبسط واجباتها وتخشى على نفسها من قراراتها، حتى تسبّب إهمالها الموصوف-حتى لا نقول أكثر-بانفجار المرفأ وانفجار الليرة وانفجار الإحتياط المالي الإستراتيجي وانفجار خزّان الإهانات الدولية والدبلوماسية وانفجار المبادرات وانفجار الوعود بالمساعدات؟
عندما "يزيح" الجميع ويبقى هو راسخاً وتتعاظم الكارثة، فهذا يعني أنّه مولّد للأزمات.
-5-
إنّ إهانة رئيس الجمهورية لا يمكن أن تكون هدفاً ولا تصلح أن تكون وسيلة، ولكنّ رئيس الجمهورية، عندما يظهر عاجزاً عن تقييم نفسه وسلوكه وتصحيح بوصلته ومساره، إنّما يستجلب الإهانات لنفسه ولبلاده والكوارث لشعبه ولمواطنيه، والضعف والهوان لطائفته.
لا أحد يرغب بذلك. الطموحات اللبنانية بسيطة، فهي في أقصاها تصل الى حدود التطلّع الى بلد طبيعي، إلى دولة طبيعية، إلى مؤسسات طبيعية، وإلى رئاسة جمهورية طبيعية.
حان الوقت أن يكون الأقوياء أقوياء في نفوسهم، أقوياء في عائلاتهم، أقوياء في نتائجهم، وليسوا أقوياء على غيرهم ولا على أوطانهم ولا على مواطنيهم ولا على دستورهم ولا على قوانينهم.
www.annaharar.com/arabic/makalat/annahar-alarabi-authors/19122020070209675