ركوب المغامرة لإسقاط الدويلة لصالح الدولة
اللواء:
نزار عبد القادر
ركوب المغامرة لإسقاط الدويلة لصالح الدولة
شكّل التجمع الشعبي وخطاب البطريرك بشارة الراعي نقطة بداية لمسيرة سياسية وطنية تهدف إلى إخراج لبنان من مأزقه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن. وشكّل خطاب الراعي إعلاناً وطنياً لخطة شاملة وجامعة، تهدف إلى استعادة سيادة الدولة من مغتصبيها، وإلى وقف العملية الانقلابية الجارية، ومنعها عن الهيمنة على كل مقدرات الدولة والشعب.
كان من الممكن أن تبقى المبادرات المتدرّجة التي أطلقها البطريرك في مناسبات عديدة محل تجاذب وانقسام سياسي بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، تؤيدها القوى المؤمنة بضرورة استعادة السيادة الوطنية وببناء دولة قوية وفاعلة، وتعارضها قوى مرتهنة لخدمة مشروع خارجي، يُعرف بمحور المقاومة والممانعة، ويصب في نهاية المطاف في خدمة المشروع الإيراني الهادف إلى الهيمنة على عدد من الدول العربية.
كانت البطريركية المارونية، الحريصة دائماً على دعم شرعية الدولة وعلى موقع رئاسة الجمهورية، على أساس رمزيته كرئيس للبلاد وكموقع متميز للموارنة على المستوى العربي والإقليمي، قد قرّرت في تموز 2020 دق جرس الانذار للمخاطر التي تتهدد الدولة والأمن الوطني من خلال زيارة قام بها البطريرك للقصر الجمهوري حيث دعا الرئيس عون إلى فك الحصار عن الشرعية، وبالتالي تحرير الدولة وقراراتها من وصاية وهيمنة حزب الله.
واطلق البطريرك خلال شهر تموز أيضاً دعوته لحياد لبنان، حيث لقيت دعوته هذه تأييداً سياسياً وشعبياً، وجاءت هذه الدعوة لتؤكد على مضمون «إعلان بعبدا» الذي كان قد أقرّ على طاولة الحوار الوطني في عهد الرئيس ميشال سليمان، والذي وقعت عليه جميع القوى، واعتمد كوثيقة وطنية معترف بها من جامعة الدول العربية ومن الأمم المتحدة، لكن سرعان ما تراجع حزب الله عن موافقته، طالباً سحب توقيعه عن الوثيقة التاريخية.
كان اللافت بأن مطلب الحياد الإيجابي لم يشكّل محطة عابرة للبطريرك بل تمسك به وحرص على شرح فحواه، مؤكداً مدى حاجة لبنان داخلياً وعربياً ودولياً لتحقيقه كخطوة أساسية من أجل إخراج لبنان وإبعاده عن الصراعات المتفجرة في المنطقة، وتحصينه عن الانزلاق إلى سياسة المحاور، في زمن الانقسامات الكبرى التي تعصف في منطقة الشرق الأوسط، تطوّرت مبادرة البطريرك من مطلب الحياد الإيجابي إلى المطالبة بمؤتمر دولي يُؤكّد سيادة لبنان وإعادة تأهيل دولته المتساقطة، وإحياء وتقوية مؤسساته الشرعية، والدفع للتحوّل إلى الدولة الوطنية، وفق أحكام الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. وجاء هذا المطلب نتيجة بلوغ البطريرك القناعة بأن ارتهان الشرعية لمشروع حزب الله، وخلافاتها غير المبررة مع الرئيس المكلف سعد الحريري حول تشكيل حكومة اختصاصيين، سيؤدي حتماً الي تفكك الدولة، وإلى تدهور اقتصادي واجتماعي، مع كل ما سيترتب على ذلك من نتائج كارثية على حياة ومستقبل اللبنانيين.
على ضوء ما شاهدناه من تأييد شعبي لمبادرة البطريرك ومن الإعلان الهام الذي صدر عن بكركي يوم السبت الفائت، فقد تحوّل البطريرك إلى الأب الروحي والقائد السياسي الفعلي للثورة، مع التأكيد على التمسك بالدستور وبوثيقة الوفاق الوطني في عملية إعادة بناء السلطة وتجديد الطبقة السياسية، ولم يفت البطريرك مسألة حل ازدواجية السلاح من خلال تقوية وتسليح ودعم الجيش بكل الطاقات الوطنية المتوافرة، وذلك في إطار بلورة استراتيجية دفاعية وطنية، يضطلع بها جيش واحد بدل جيشين.
في ظل الأوضاع الراهنة بكل تعقيداتها الداخلية والخارجية يمكن القول بأن لبنان بات منقسماً بين معسكرين ومشروعين: المعسكر الأوّل، يتمثل داخلياً بقوى 8 آذار، مع مشروعه المعروف بمحور المقاومة والممانعة، والمرتبط بالنظامين الإيراني والسوري. والمعسكر الثاني يتمثل بالحراك الشعبي لثورة 17 تشرين الأوّل، وبعض الأحزاب والقوى السياسية المنادية بلبنان أولاً، في ظل مبادرة بكركي ومشروعها السياسي الجديد، المتمحور حول استعادة الدولة لسلطاتها وتحقيق الاستقلال الوطني الثالث.
في ظل المأزق السياسي الداخلي الراهن، وفي ظل عجز الطبقة السياسية عن تشكيل حكومة قادرة على اعتماد برنامج إصلاحي ينتشل الدولة من الانهيار الكامل، يبدو أنه بات من الضروري دعوة المجتمع الدولي للمساعدة على اجتياز هذه المرحلة الخطرة. ولبنان المهدد بالتفكك والسقوط لن يكون الدولة الأولى أو الأخيرة التي تدخلت القوى الدولية الكبرى أو الأمم المتحدة لإخراجها من ازمتها، وإعادة تكوين السلطة لديها، واستعادة سيادتها، لكن يبقى السؤال المحوري: كيف الوصول إلى ذلك؟
لا بدّ ان تعمل بكركي الآن، وتبذل أقصى جهودها من أجل تحقيق مبادرتها الإنقاذية، وذلك بالعمل على ثلاثة محاور:
اولاً: على الصعيد السياسي، لا بدّ ان تشكّل بكركي بعض المجموعات من أجل توسيع القاعدة الشعبية السياسية الداعمة لمبادرتها، مع ضرورة التنبه إلى أية انحرافات سياسية واعلامية لتوظيفها طائفياً أو اختراقها من قبل سفارات أو قوى خارجية.
ثانياً، لا بدّ من العمل الدبلوماسي الناشط داخل لبنان وخارجه لشرح المبادرة، وبلورة أهدافها الوطنية، ولن تكون هذه المهمة مستحيلة في ظل حصول المزيد من التدهور الاقتصادي والمعيشي، ولا بدّ من التركيز على دعوة الجاليات اللبنانية في الخارج لدعم المبادرة، وتشكيل لجان خاصة لتسويقها لدى قيادات الدول المقيمين فيها، وخصوصاً لدى الدول العربية المؤثرة كمصر والسعودية، ولدى الدول المؤثرة عالمياً، وخصوصاً الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن.
ثالثاً، قيام بكركي بتحرك سياسي لدى عواصم القرار، وذلك بدءاً من تهيئة الأجواء لزيارات يقوم بها البطريرك إلى هذه العواصم، وخصوصاً إلى الفاتيكان وفرنسا والولايات المتحدة، ويجب ان تترافق هذه الزيارات مع حملات إعلامية من أجل اجتذاب الدعم الخارجي للمبادرة على عدّة مستويات، داخل المجتمعات العربية والغربية أو على مستوى المجالس التشريعية. نحن نعيش في نفس الأجواء التي سبقت اتخاذ القرار 1559، والذي قضى بإخراج السوريين من لبنان، ومن خلال تعاون فرنسي - أميركي، وفق ما ذكرته كوندوليزا رايس في مذكراتها كوزيرة سابقة للخارجية الأميركية.
لا بدّ بالمناسبة التحذير من مخاطر العودة إلى اتصالات وجلسات لجان الحوار بين بكركي وحزب الله، لأن مثل هكذا حوار سيؤثر سلباً على زخم المبادرة، ويترك بعض الشك والريبة لدى جزء من الجمهور اللبناني ولدى عواصم القرار العربية والغربية. وإذا كان لا بدّ من الذهاب إلى طاولة الحوار من جديد، فلتكن طاولة حوار وطني تعقد في بعبدا، والتي لا بدّ أن تسبق الدعوة إليها تخلي الرئيس عون عن سلوكية المكابرة والإنكار التي يعتمدها، والتي منعت حتى الآن تشكيل الحكومة العتيدة.
من المتوقع ان يُبادر المعسكر الآخر بقيادة حزب الله للعمل على استيعاب المبادرة، بالدعوة للحوار مع بكركي مباشرة أو بواسطة بعض الحلفاء، بالإضافة إلى استعمال نفوذ الحزب لتسريع تشكيل الحكومة، لكن تدرك بكركي والمعسكر الذي باتت تقوده بأن الحكومة وإن نجحت في اعتماد بعض الإصلاحات فلن تكون قادرة على حل ازدواجية السلاح واستعادة قرار السيادة، وبالتالي إنهاء الحالة الانقلابية.
في النهاية لا بدّ من دعوة بكركي لاستكمال مشروعها لتحرير الوطن من حزب الله ومن الطغمة السياسية الفاسدة، ولا بدّ لها ان تدرك بأنها ستكون مدعومة في ركوبها لهذه المغامرة من كل الاحرار ومن كل القوى المؤمنة بإسقاط الدويلة لصالح الدولة المالكة لقرار السلم والحرب.