14 نيسان 2021
"أرواح ميتة"

سمير عطالله
"أرواح ميتة"
تكراراً، أغنى الروس حياتنا، وآداب العالم: الرواية التي لا مثيل لها، ومسرح انطوني تشيكوف، وشِعر الكسندر بوشكين. وفي مرحلة واحدة من الدفق المذهل، عظماء الرواية الثلاثة: ليون تولستوي، وفيدور دوستويفسكي، ونيكولاي غوغول، الذي جاء الى الروسيا من اوكرانيا المجاورة، التي ارسلت الى عاصمة القياصرة الكتّاب والمفكرين، والى عاصمة البلاشفة قادة مثل نيكيتا خروشوف وليونيد بريجنيف ونيكولاي بودغورني. ونحن هنا،على الساحل الشمالي من بيروت، ماذا ومَن لم ترسل الينا اوكرانيا، من العرق السلافي، من عاقدات الحاجبين على الجبين اللّجين. ولم يشرح لنا الأخطل الصغير، أن اللجين من اللجّة، واللجّة هي البياض. وقد كنَّ صفوة الوافدات، في زمن الطفرة والعزّ. وأما اليوم، زمن الطفر والذل والبحث عن حليب اطفال وحفاضات، فالمطار يحتشد بهنّ، مسافرات مغادرات، وببنات افريقيا ايضاً. والرحمة لسعيد عقل الذي قال: ربّي أعزَّ الناس كلّهم، سوداً كانوا أم بِيضا.
لقد نزلت بنا وبهنَّ النازلتان: كورونا، والقلّة. وبما ان للتباعد الاجتماعي البغيض، ارتباطاً عضوياً بسعر الصرف، فقد تأثرت تأثراً جائحاً تلك البقعة على الساحل اللازوردي من البلاد. إلى أين؟ إلى اين؟
 
جاء نيكولاي غوغول الى العاصمة التي بناها بطرس الأكبر فوق المستنقعات، مسخِّراً في إنشائها نصف مليون بشري، طلباً لوظيفة حكومية، قادماً من مقاطعة فولتافا، حيث تلقّى ميخائيل نعيمة دروسه، وعاش حبه الوحيد، اوكرانية شهباء ظل طيفها يرفرف في الشخروب كلما التمع موسم الكرز بلون الصبوة والخمرة. وقد ورد ذكرها عابراً في مذكراته "سبعون". فالرجل لم يكن زير نساء مثل خلِّه ورفيقه جبران خليل جبران، الذي دانت له نساء بوسطن والحي الغربي من نيويورك وشاعرته، بربارة يونغ، المتعبِّدة حتى النزع الأخير. هكذا يبدأ نعيمة سيرته الشهيرة عن صاحب "النبي" متبرِّماً بوجود بربارة الى جانبه، وربما ايضاً بشهرة صديقه الذائعة. يقدم لنا الشاعر هنري زغيب صورة أخرى وجديدة في كتاب صدر له هذا الاسبوع، مستخدماً العنوان الذي وضعته يونغ لكتابها عن جبران قبل تسعين عاماً (1): "هذا الرجل من لبنان".
 
يغبط المرء هنري زغيب على ما قدمه من سِيَر بهية لرموز الفن والأدب: الرحابنة، وسعيد عقل، وجبران، والياس ابو شبكة. وفي "هذا الرجل من لبنان"، قلم هنري زغيب، و600 صفحة، يبدو امامه كتاب يونغ فقيراً وعاجلاً، وكأنه تمهيد لكتابه.
إذن، جاء غوغول الى بطرسبرج، يطلب وظيفة. وقد اطلق القيصر الأكبر اسمه على المدينة التي بناها فوق اهوار ومستنقعات. وكان الاسكندر من قبل قد سمّى على اسمه، أعظم حاضرة ثقافية في العالم. حتى افلاطون جاء يمضي في الاسكندرية 13 عاماً، آتياً من مهد الفلسفة في اثينا. ذلك كان زمن الاغارقة في كل ما  يُزهى به. والاسكندر ليس فقط أنه هزم الفرس وبلغ الهند، بادئاً حياته في السابعة عشرة ومتوفياً وفاة غامضة في الثانية والثلاثين في بابل. ثمة ما هو اكثر أهمية: تلميذ ارسطو!
 
كان الاسكندر من العظمة بحيث شكك البعض في انه شخصية حقيقية. إنسان يطوّع العالم وهو في الخامسة والعشرين. كلما انبهر الناس كلما رفضوا التصديق. لم يصدقوا ايضاً وجود المسيح، الذي مات عن 33 عاماً، سابحاً في انوار العالم، بادئاً حياته في الثانية عشرة. والى الآن تظهر كل فترة نظرية جديدة عن ان شكسبير لم يكن واحداً. أيعقل أن صاحب تلك اللحية الصغيرة وضع، منفرداً، كل تلك الاعمال الخالدة؟
 
هل كانت اللحية علامة من علامات الفخامة؟ لقد فرض بطرس الاكبر الضريبة على صاحبها، ما لم يكن تابعاً لكنيسة الامبراطورية الارثوذكسية. وكان مستشاروه القادمون من الغرب، قد نصحوه بأن يقلّد بريطانيا. إذا شئتَ حقاً ان تكون لك امبراطورية، فعليك بأمرين: الاقتصاد وسلاح البحرية. ونحن جاءنا من سلاح البحرية الرئيس اميل لحود، ومن سلاح المدفعية الرئيس ميشال عون. وكلما تأمَّل ما فعله المدنيون بلبنان، شعر بالحنين الى ايام الجنرالية وحروبها وانتصاراتها، لذلك، هتف باللبنانيين مذكِّراً: أنا الجنرال عون الجنرال القوي، الذي جاء بعد جنرال ضعيف ورئيس عادي، ميشال سليمان. ولاية كاملة وهدوء مطلق. كل شيء في مكانه. الدولة والدستور والعلاقة مع رؤساء الحكومات ومع الدول، والاقتصاد والنقد والأهالي والأمن والناس ولا شيء آخر. رئيس غير قوي، بلا حزب ولا كتلة نيابية ولا أبطال من حوله مثل مار جرجس يردّ التنين عن أعناق المسيحيين، ويردّ للمسيحيين أمجادهم في الادارات والمديريات والطاقات!
 
إذن، جاء غوغول الى بطرسبرج، طلباً لوظيفة. وفيها اكتشف ان القيصر، من خلال ثورته الادارية، وضع لائحة الطبقات. 14 طبقة في بلد مهووس بالوجاهة والالقاب والرتب. شيء قريب مما عُرف عندنا بسلسلة الرتب والرواتب. ولم يطق غوغول حياة الوظيفة، فسرعان ما خرج منها، ليسخر من النماذج البيروقراطية التي عرفها. وأبقى سوريالية الناس على ما هي، غير مدرك انه سوف يكون رائد الرواية السوريالية البديعة في "المعطف" و"الأنف" وبعض القصص القصيرة في مجموعة "امسيات في قرية قرب ديكناكا". جميعها نماذج مستعارة من تجاربه. وقد عُرفت تلك الاعمال بـ"حكايات سانت بطرسبرج". ومنها "يوميات رجل مجنون".
 
قصة رجل متسلق كانت وظيفته ان يبري أقلام الرصاص لمديريه. وكان يتفنن في ذلك بحسب ذوق المدير المعني. ولما وجد السلَّم سهلاً، بدأ يحلم بالصعود. لكنه لم يعد يعرف أين يتوقف. وبلغ به الجنون أنه أحب ابنة المدير الأكبر. وراح صاحبنا، بوبرتبتش يقنع نفسه بحقه في المغامرة: "مَن أنا؟ هل أنا ابن رتيب عادي، أم ابن خياط من العامة؟ إنما أنا نبيل قادر على الترقّي، وبعون الله سوف أكبر وأعلو". وفي نهاية الأمر يحلم بأن يرث عرش اسبانيا في العام 2000.
 
لم تعد نفسه تحمله. لكن المرض ليس مرضه وحده. وليس وحده صار يكرر في احاديثه مع جميع الناس "هل تعرف مَن تكلِّم لكي تطلب مني أن أساعدك"؟ يقول غوغول إن وجود الإنسان في وظائف حقيرة يثقل الروح مثل حكمٍ بالموت، لذلك، يفقد صوابه في محاولة الخروج منها.
 
بنى غوغول أشخاصه على سلسلة الرتب والرواتب. المجتمع الفارغ الذي يتسابق ويتراكض ضمن "لائحة الطبقات". لوثة الوصول والفساد وصراع الاسترضاء. "سلّم الجدارة" أصبح سلّم الغش. أقصر طرق الهلاك مجتمع فاسد وسياسيون بلا روح. أو "الارواح الميتة" كما سمّاها غوغول في تحفته، التي جعلت دوستويفسكي يقول إن كبار أدباء الروسيا خرجوا من تحت معطفه.
 
الأدب الروسي معاطف كثيرة. دوستويفسكي كان متواضعاً وعاطفياً في تقييم زميله الاوكراني. علاقة حب وكره على الدوام بين الروس والاوكران. وفلاديمير بوتين، المجدّد لنفسه الى ما بعد الأبد، قد يجتاح اوكرانيا كما اجتاح القرم. سوخوي محركاتها دائرة تنتظر الاشارة. ولا تهتم كثيراً بحركة البوارج الاميركية في البحر الاسود. فالرئيس بايدن هنا من اجل المصالحات. كل حجر قلبه ترامب يعيده الى مكانه. شيء من جيمي كارتر، ولو أنه ليس محاطاً مثله بالقسس، أو يقيم قداس الأحد ويلقي عظته. وقد سبقه في اختيار نائب الرئيس: اولاً امرأة، وثانياً ملونة. وهو التعبير الذي حل محل تعبير الزنوج في الستينات.
 
مصالحات هذه الدنيا، مصالحات. رئيس افريقي في البيت الأبيض، والآن نائبة رئيس هندية. ونحن نتذكر 46 عاماً على حروب الآخرين، بالمزيد منها. الرئيس ينادي على بزته العسكرية، وولي عهده يبلغنا ان دستورنا "عفن" و"نتن". والجبهات الحقيقية في قلب اسواق الغذاء: خبز وحليب وخمر.
تابع الرئيس على
© 2024 ميشال سليمان جميع الحقوق محفوظة