هل الجيش هو الحل في لبنان؟
عندما تواجه أيّ دولة في العالم الثالث مأزقاً وجودياً، يتطلّع كثيرون إلى القوات المسلّحة، على اعتبار أنّها هي "الحل". وفي لبنان الذي رمته الطبقة الحاكمة في الجحيم، اقترح عدد من السياسيين أن تتولّى القوات المسلّحة جميع المهام الدستورية، في البلاد.
وهذه ليست المرة الأولى التي يُحكى فيها، في لبنان، عن الحاجة إلى "انقلاب عسكري"، إذ سبق لنا، في هذه الزاوية بالتحديد، أن نشرنا، في مناسبتين، مقالين عن هذه المسألة، ولكن هذه المرّة، أخذ طرح "الجيش هو الحل" صدى أوسع ونقاشاً أكبر، لأنّه يأتي، في ظل قناعة محلية وإقليمية ودولية أنّ "الحكّام هم المشكلة"، فالفاسدون منهم وفيهم، والأنانيون منهم وفيهم، والمعرقلون منهم وفيهم، والعاجزون منهم وفيهم، والكوارث المتلاحقة والمتراكمة من نتاجهم.
وطرح الجيش كحل، لا يأتي من فراغ، بل يبني نفسه على عوامل محلية وخارجية، إذ إنّ غالبية اللبنانيين الذين يكنّون الحد الأدنى من الاحترام للقوات المسلّحة، يتطلعون إلى من يخلّصهم من الطبقة الحاكمة، في وقت، يصر المجتمع الدولي على التعاطي المميّز بإيجابيته مع المؤسسة العسكرية.
وهذا يعني، نظرياً، أنّ القوات المسلّحة يمكنها أن تفتح كوّة في دوّامة اليأس التي يعيش فيها اللبنانيون، لأنّها تضمن تأييد الداخل، من جهة وتشكّل محاوراً محترماً وموثوقاً مع المجتمع الدولي الذي يحتاج إليه لبنان لمدّه بالمساعدات والقروض العاجلة، من جهة أخرى.
وعليه، فإنّ مقررات مؤتمر "سيدر" ومندرجات المبادرة الفرنسية، يمكن أن تُعهد إلى القوات المسلّحة القادرة على تنفيذها، بدل أن تبقى رهينة هذا العراك السياسي بين الحكّام الذين حوّلوا الدستور إلى وجهات نظر متناقضة، في ظل كارثة وطنية غير مسبوقة، يحتاج الانتصار الصعب عليها، إلى تضافر الهمم والجهود، كما إلى توحيد الرؤى والأهداف.
بطبيعة الحال، لا يحظى هذا الطرح بموافقة غالبية الطبقة السياسية اللبنانية، بل يثير في المقابل غضب الطبقة الحاكمة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه، من أجل "تأبيد" وجودها في السلطة.
ويمكن اعتبار رئيس الجمهورية ميشال عون الذي كان أوّل من رعى، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حين كان قائداً للجيش اللبناني، نظرية "الجيش هو الحل"، أكبر عدو لهذا الطرح، حالياً، على اعتبار أنّ النظرية التي كان قد توسّلها لتسويق طموحه في الوصول إلى القصر الجمهوري، أصبحت، اليوم وسيلة لتحرير هذا القصر من وطأته ووطأة صهره جبران باسيل، الذي سبق أن ورث عن والد زوجته، رئاسة الحزب الذي كان قد أنشأه عون تحت اسم "التيار الوطني الحر".
ولكنّ الانقلابات العسكرية لا تنتظر، عادة موافقة المنقلب عليهم، بل هي تأتي رغماً عنهم، وتحت شعار تخليص الشعب منهم. وعليه، فهل هذا يعني أنّ طرح "الجيش هو الحل"، يقع في مكانه ويمكن أن ينتج المفاعيل المرجوّة منه؟
وجّهتُ هذا السؤال إلى ثلاث شخصيات لها تاريخها في المؤسسة العسكرية كما في العمل السياسي: الرئيس السابق للجمهورية والقائد السابق للجيش ميشال سليمان، المدير السابق للمخابرات العسكرية جوني عبدو ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط العميد طنّوس معوّض.
كانت المفاجأة أنّ هذه الشخصيات الثلاث أبدت معارضتها لهذا الطرح، واعتبرت أنّ من شأنه أن ينتج "مفاعيل عكسية"، إذ ذهبت، بتشخيصها، فوراً إلى "حزب الله".
تعتقد هذه الشخصيات، في خلاصة للنقاش معها، أنّ "حزب الله" لا يمكن أن يوافق على هذا الطرح، ليس خوفاً على الديمقراطية، إنّما خوفاً من أن تكتسب المؤسسة العسكرية قوة إضافية، على اعتبار أنّه في حال وصل الجيش إلى السلطة، سيكون معنياً، بفرض سلطته على جميع اللاعبين في لبنان، فهو، للإنقاذ، بحاجة إلى فرض مبدأ "النأي بالنفس" عن حروب المنطقة وصراعات المحاور، وهذا يعني أنّ عليه أن يسهر على إخراج "حزب الله" من سوريا عسكرياً ومن اليمن والعراق أمنياً، وعلى تزخيم ثقافة الدولة القادرة والعادلة التي تساوي بين جميع أبنائها.
وهذه المهمة إذا ما أخذها الجيش على عاتقه، وهو في موقع صانع القرار السياسي، فسوف تدخله في صراع عسكري لا يريده مع "حزب الله".
وفي حال، غضّ الجيش النظر عن ملف "النأي بالنفس" فهو سيصبح، بنظر المجتمع الدولي، مثله مثل الطبقة الحاكمة التي انقلب عليها، وتالياً، فهو لن يُنتج الخير المرجو منه، بل يُسقط عنه الاحترام الذي يحظى به، حالياً.
إنّ الجيش اللبناني، في وضعيته الراهنة، لا يعاني هذه المشكلة لا مع الداخل اللبناني ولا مع المجتمع الدولي، لأنّه يحمي نفسه بالقرار السياسي، فهو لا يتصدّى لحركة "حزب الله" على الحدود اللبنانية السورية، لأنّ القرار السياسي الذي يخضع له، يغطّي مشاركة "حزب الله" في النزاع السوري.
وهذا يعني أنّ الجيش اللبناني، في حال استلم السلطة، يكون أمام خيارين منتجين لمزيد من المفاعيل السلبية على البلاد، سواء دخل في صراع مع "حزب الله" أو مع المجتمع الدولي.
إذن، ما الحل في بلد ينتقل من الواقع الأسود الى واقع أشد سواداً، في ظل تأكيدات أنّ وقته بات ثميناً للغاية، ولم يعد ثمة متسع منه، إذ إنّ الجوع الكبير يطرق الأبواب، بقوة؟
يشترط المجتمع الدولي تشكيل حكومة فعّالة وذات مصداقية حتى تفتح أبواب المساعدات والقروض الملحّة.
ويعتبر الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري أنّ حكومة تتشكّل بشروط رئيس الجمهورية ميشال عون يستحيل أن تكون إنقاذية، بل هي ستتسبب بمزيد من المآسي.
ويرى عون أنّ الحريري ليس مؤهّلاً لترؤس حكومة منتجة للإصلاح.
وتجد غالبية السياسيين أنّ الصراع على الحكومة يُخفي صراعاً جرى فتحه، في الوقت الخطر، على مستقبل رئاسة الجمهورية.
ويستخف المراقبون باقتراح اللجوء الى انتخابات نيابية مبكرة، على اعتبار أنّ هذه الانتخابات قد تعدّل في موازين بعض القوى المسيحية والسنية في البلاد، حيث لا تكمن المشكلة الجوهرية، ولكنّها لن تغيّر شيئاُ في واقع "حزب الله"، حيث تكمن المشكلة الجوهرية، إذ تبقى الكلمة العليا لتأثير السلاح وللأموال التي تتدفق من "الحرس الثوري الإيراني".
ولم تستطع، حتى تاريخه، مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي لجهة "تحييد لبنان" و"تدويل الحل"، من أن تتجسّد في الوقائع السياسية اللبنانية، بفعل تولّي "حزب الله" معارضتها، بشراسة وصلت إلى حد تهديد "أبواقه" بالحرب الأهلية.
أمام هذا المأزق، لا يوجد في الأفق إلّا حلّ تصفه المعطيات اللبنانية الراهنة بالراديكالي، وهو يقتضي تنظيم مواجهة ضاغطة، بكل السبل المشروعة، بهدف تحجيم "حزب الله" لإخراج لبنان من أسر الأجندة الإيرانية.
إذا حصلت هذه المواجهة، حينها تصبح كل الحلول معقولة، بما فيها.. الجيش.
فارس خشّان