النهار
الاب صلاح ابو جودة
دلالات سياسة السقوط في الهاوية
اسلكوا المسار المعاكس، ولا تصغوا إلى الأصوات العديدة التي تروّج نماذج حياة تقوم على الغطرسة والعنف والنجاح مهما كان الثمن، والمظاهر والممتلكات الماديّة" (البابا بنديكتوس السادس عشر).
استُخدم مصطلح سياسة حافّة #الهاوية (Brinkmanship) في أثناء الحرب الباردة، للتعبير عن السياسة الخارجيّة أو الاستراتيجيّة العسكريّة التي انتهجتها كلّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفياتيّ حينذاك بهدف تحسين موقع التفاوض في وجه الخصم، وتمثّلت بأن تلجأ كلّ دولة منهما أو الدولتان معًا إلى تصعيد النقاط الخلافيّة بينهما بطريقة هجوميّة محفوفة بالأخطار إلى حدّها الأقصى، من دون السماح لها بالتحوّل إلى مواجهة عسكريّة. فقد كانت قيادات الدولتَين السياسيّة والعسكريّة على السواء، تعلم علم اليقين أنّ أيّ حادث عسكريّ يمكن أن ينقلب بسرعة حربًا نوويّة من شأنها أن تؤدّي إلى دمار متبادل كامل. لذا، كانت الحلول تُصاغ على حافة الهاوية منعًا لحصول الكارثة. ولم تكن تلك الحلول، في نهاية الأمر، إلاّ تنازلات متبادلة تفرض نفسها طريقًا وحيدًا لتجنّب الانتحار الجماعيّ. ولا شكّ في أنّ كلّ طرف من الطرفَين كان يجد نفسه بالنتيجة، في آنٍ واحد، رابحًا وخاسرًا. أمّا الخسارة فبسبب عدم تحقيق الأهداف بالكامل، وعدم القدرة على لي ذراع الخصم؛ وأمّا الربح فبتحاشي وقوع الكارثة والحفاظ على ما أمكن من مكتسبات.
لقد سلكت الأزمة السياسيّة المحليّة، منذ تكليف الرئيس سعد الحريري في 22 تشرين الأوّل 2020 تأليف حكومة جديدة، خطًّا تصاعديًّا يشبه إلى حدٍّ بعيد سياسة حافّة الهاوية، مع استثناءات ثلاثة: أوَّلاً، الأطراف المتصارعة داخليّة كلّها؛ وثانيًا، وسائل الضغط بين الأطراف ليس التهويل بالقوّة العسكريّة، بل التعطيل الذي يحوِّل حياة اللبنانيّين إلى حياة بائسة، وكأنّ ثمّة عمليّة ابتزاز متبادلة بواسطة قهر الشعب؛ وثالثًا، والأهم، تجاوز سياسة حافّة الهاوية والسقوط فعليًّا في الهاوية، أي بدء عمليّة الانتحار الجماعيّ، إذ إنّ مؤسّسات الدولة كما وسائر القطاعات العامّة والخاصّة باتت فعلاً في حالة احتضار.
لن يختفي لبنان عن الخارطة الدوليّة نتيجة عمليّة الانتحار الجماعيّ الجارية، ولكن لا يمكن معرفة ما سيحصل على الساحة الداخليّة مع تحوّل الانتحار تدريجيًّا إلى تفكّك كلّ شيء. فالسيناريوهات كثيرة، ولا مجال لتعدادها. ولكن يمكن الكلام بعدُ على مخرجَين ممكنَين قبل بلوغ التفككّ: أوّلهما، التوصّل إلى تأليف حكومة قد توقف التدهور الاقتصاديّ؛ وثانيهما، إجراء انتخابات نيابيّة تسمح بإنتاج سلطة جديدة. وفي هاتَين الحالتَين، من المفيد أن يُطرح السؤال الآتي: لماذا أدّت الأمور إلى السقوط في الهاوية؟ وبكلام آخر، لماذا لم يلجأ المتخاصمون إلى حلّ يقوم على تنازلات متبادلة على قاعدة "اللاغالب واللامغلوب" المألوفة في لبنان، بغية تجنّب الانتحار الجماعيّ؟ قد يساهم الجواب على هذا السؤال في عدم تكرار المأساة.
إنّ عدم التردّد في السقوط في الهاوية يُبيِّن، بحدّ ذاته، أنّ ثمّة تطرّفًا شديدًا قد طرأ على طريقة العمل السياسيّ المعرّض دائمًا إلى الانحراف في إطار النظام القائم. وقبل التطرّق إلى هذا التطرّف، لا بدّ من توضيح سبب تعرّض العمل السياسيّ الدائم إلى الانحراف، ألا وهو سواد المنطق الجمعويّ الطائفيّ. فهذا المنطق لا يسمح بسهولةٍ بتطوير مفهوم خيرٍ عامّ، ولا مفهوم مواطنيّة عماده المواطن الفرد والانتماء إلى الدولة، ويسهّل تداخل مصالح المرجعيّات السياسيّة الشخصيّة ومصالح الطوائف، وتداخل عوامل خارجيّة تزيد الوضع الداخليّ تعقيدًا. فلا عجب أن يتّخذ العمل السياسيّ، في ضوء هذا الواقع، شكل حلبة صراع تنعكس سلبًا على اللبنانيّين، عوض أن يكون منافسة مسؤولة وعقلانيّة وشفّافة من أجل تكوين شعب يعيش عيشة كريمة ويفتخر بالانتماء إلى دولة الحقّ والقانون. وإزاء هذا الواقع، يبيّن تاريخ دولة لبنان أنّ السلطة الوسطيّة تبقى النهج الوحيد الذي يمكنه الحفاظ على استقرارٍ يسمح بتطوّرٍ مقبولٍ في مختلف الحقول، وهي على وجهَين: إيجابيّ وسلبيّ. في ما خصّ الوسطيّة الإيجابيّة، أوّلاً، فهي تعني تَحلّي الممسكين بالسلطة برؤية وطنيّة ومشروع وطنيّ يتجاوز التركيبة الطائفيّة، وسعيهم إلى تطبيق مشروعهم من خلال سياسة برغماتيّة تحتاج إلى حكمةٍ وصبر، ويبقى عهد الرئيس شهاب نموذجًا لها. أمّا الوسطيّة السلبيّة، ثانيًا، فتعني أن تكون السلطة بين أيدي أصحاب النيّات الحسنة الذين يضعون في رأس أولويّاتهم السلم الأهليّ، وتأمين الخدمات المختلفة التي يحتاج إليها المواطنون، بالرغم من عجزها عن القضاء على الفساد، وتحرير القضاء من التدخّلات السياسيّة، وتحقيق الإصلاحات الإداريّة، لا بسبب غياب الرؤية الوطنيّة الجامعة عن برنامج حكمها فحسب، بل بسبب ارتباطها حكمًا بالمصالح الشخصيّة الممزوجة بالطائفيّة أيضًا. إنّها سلطة توفيقيّة بامتياز، تتحاشى التطرّف، وترفع دائمًا شعار "اللاغالب واللامغلوب" لتجاوز الأزمات، وشعار "الشراكة" الوطنيّة لتسيير الشؤون العامّة.
بالعودة إلى مسألة التطرّف الذي أدّى إلى السقوط في الهاوية، فما حصل مع بداية عهد الرئيس عون كان الإعراض عن الوسطيّة بوجهَيها الإيجابيّ والسلبيّ، من خلال رفع شعار حكم "الأقوى في طائفته" (مقالتنا في قضايا النهار بتاريخ 29 /10/2016)، مع التمسّك بإرادة الإصلاح ومحاربة الفساد. ولكن لا يمكن أيّ مشروع إصلاحيّ أن يتحقّق في ظلّ حكم الأقوياء في الطوائف، لأنّ هذه الصيغة تفترض حكمًا الحفاظ على الطوائف بصفتها كيانات مستقلّة لها حقوق خاصّة؛ وبالتالي، يصبح تعريف المصلحة العامّة والخير العامّ والعدالة المرتبطة بالضرورة بأيّ مشروع إصلاحيّ ملتبسة. لا يمكن العمل على الإصلاح خارج سلطة وسطيّة إيجابيّة تتمتع بروح وطنيّة جامعة، كان يمكن إعلان بعبدا العام 2012 أن يكون ركيزة متينة لها.
ومن ثمّ، لم يؤدِّ هذا التطرّف الشديد في العمل السياسيّ على قاعدة الأقوى طائفيًّا إلى إجهاض محاولات الإصلاح كافّة فحسب، بل فاقم من تعقيدات آليّة الحكم، إذ عزّز الترويكا التي تؤثر تهميش الدستور والقانون لصالح المرجعيّة السياسيّة القويّة، ودفَعَ إلى حصول استقطابات داخليّة جعلت من تجاوز اللعب على حافّة الهاوية إلى القفز فيها أمرًا ممكنًا، لأنّ المواجهة اكتسبت طابعًا وجوديًّا للأطراف المتخاصمة. واللافت في هذا المشهد المأسويّ أنّه بقدر ما يسرّع تفاقمُ الاستقطاب انهيار البلاد الكامل، يشتدّ اتّهام الخصوم بعضهم بعضًا بالمناورة والنوايا الخبيثة، مع غيابٍ كامل لكلّ نقدٍ ذاتيّ.
واللافت أيضًا تنامي ثمّة وهمٌ في أوساط أنصار المتخاصمين في حصول تغيير فجائيّ يقلب الأوضاع لصالحهم. وبالتوازي مع هذا الوهم، يشتدّ في هذه الأوساط نفسها الخوف من الآخر-الخصم الذي يتحوّل عدوًّا يجب التخلّص منه. وليس من قبيل المبالغة القول إنّ المشهد في أوساط الخصوم يقترب من ظاهرة البارانويا الجماعيّة، إذ تسيطر على المخيّلة الجماعيّة فكرة تآمر الآخر التي تتّخذ شكل حملة منظّمة ومنهجيّة يجب صدّها ببطولة. يقول جان جاك روسّو: "كم من فضائل ظاهرة تُخفي في الغالب رذائل مؤّكدة! الإنسان الحكيم رزين بالاعتدال، والمخادع بالخداع" (جان جاك روسّو). هل من إمكانيّة لسلوك طريق الوسطيّة الإيجابيّة قبل فوات الأوان؟