سلاح الحزب بين اتّفاق الدوحة وإعلان بعبدا
اساس ميديا
خالد حمادة
سلاح الحزب بين اتّفاق الدوحة وإعلان بعبدا
في سياق مناقشة الاستراتيجية الدفاعية الوطنية التي طرحها حزب الله في العام 2006، وأعاد موقع "العهد" طرحها قبل الانتخابات النيابية.
تتطرّق هذه الحلقة، الخامسة في سلسلة مستمرّة، إلى مداولات جلسات الحوار لعد اتفاق الدوحة في العام 2008، وبعد 7 أيّار الشهير، وفيها روايات موثّقة لما دار في هذه الجلسات، وكيف أنّ حزب الله يستعمل هذه الحوارات من أجل تمييع النقاشات وربح المزيد من الوقت في سياق مشروعه الكبير... وصولاً إلى مشاركته في الحرب السورية، وانتقال سلاحه من معضلة لبنانية إلى "مسألة إقليمية". ثم "إعلان بعبدا" الذي كان "حاجة لحزب الله"، وكيف تبرّأ منه الحزب لاحقاً.
أرسى اتّفاق الدوحة أُسساً جديدة للحوار حول دور سلاح حزب الله في الاستراتيجية الدفاعية الوطنية، وأقصت بنوده الأكثرية النيابية عن ترجمة وزنها في السلطة التنفيذية، وقيّدت قرارها باستبدال أكثرية الثلثين التي يقرّها الدستور بعرف "الثلث المعطّل" الذي أُدخل على الحياة السياسية من خارج النصّ. مذ ذاك الوقت، تُرجم تشكيل حكومة وحدة وطنية من 30 وزيراً يُوزّعون على أساس 16 وزيراً للأغلبيّة و11 للمعارضة و3 وزراء لرئيس الجمهورية بإعطاء الحقّ للأقليّة البرلمانية بتعطيل الحياة السياسية التي أضحت تُسيّر بالتوافق وليس بالتصويت داخل مجلس الوزراء، وبإضفاء الشرعيّة على كلّ تجاوز للحياة الدستورية والقانونية تحت طائلة تكرار العودة إلى الشارع.
جاء في البند 12: "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية... ما عدا ما يتعلّق بواجب الالتزام بمقرّرات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة
نصّ اتّفاق الدوحة في بندَيْه الرابع والخامس على "تعهّد الأطراف بالامتناع عن العودة إلى استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية"، و"بإطلاق الحوار حول تعزيز سلطات الدولة اللبنانية على كافّة أراضيها وعلاقاتها مع مختلف التنظيمات على الساحة اللبنانية بما يضمن أمن الدولة والمواطنين"، وبمعنى آخر أضحت محاذير استخدام السلاح مقتصرة على "عدم الخروج على عقد الشراكة الوطنية القائم على تصميم اللبنانيين على العيش معاً في إطار نظام ديموقراطي، وحصر السلطة الأمنيّة والعسكرية على اللبنانيين والمقيمين بيد الدولة بما يُشكّل ضمانة لاستمرار صيغة العيش المشترك والسلم الأهلي للّبنانيين".
كرّس اتّفاق الدوحة إقصاء القوى الشرعية عن دورها الحصري في الدفاع عن الوطن وسلامة أراضيه، وقد أوصى الاتّفاق بـ"استئناف الحوار برئاسة رئيس الجمهورية فور انتخابه وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وبمشاركة الجامعة العربية، وبما يعزّز الثقة بين اللبنانيين". وقد أتى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً توافقيّاً بحضور أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس وزرائها الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، وهما القوّة المحرّكة وراء اتّفاق الدوحة، ومجموعة من وزراء الخارجية العرب والأجانب، من بينهم وزيرا خارجية سوريا والسعودية، بالإضافة إلى فرنسا وتركيا ومصر وإيران، ليؤكّد احتضاناً عربياً لمعادلة جديدة أرساها الاتّفاق.
انطلق خطاب القسم للرئيس المنتخب، ولا سيّما في فقرته المتعلّقة بالمقاومة، من اتّفاق الدوحة نحو طرح إطارٍ متصوّرٍ للخروج من مأزق السلاح عن طريق الحوار :"إنّ نشوء المقاومة كان حاجة في ظلّ تفكّك الدولة، واستمرارها كان في التفاف الشعب حولها وفي احتضان الدولة كياناً وجيشاً لها، ونجاحها في إخراج المحتلّ يعود إلى بسالة رجالها وعظمة شهدائها، إلا أنّ بقاء مزارع شبعا تحت الاحتلال، ومواصلة العدوّ الإسرائيلي لتهديداته وخروقاته للسيادة، يحتّم علينا استراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازماً مع حوار هادئ، للاستفادة من طاقات المقاومة، خدمة لهذه الاستراتيجية، فلا تُستهلك إنجازاتها في صراعات داخلية، ونحفظ بالتالي قيمها وموقعها الوطني".
وفي هذا الإطار تلقّفت حكومة الإرادة الوطنية الجامعة، التي شُكّلت بتاريخ 11 تموز 2008 برئاسة فؤاد السنيورة، مقرّرات مؤتمر الدوحة لجهة استيعاب معادلة القوى الجديدة وإعادة إطلاق الحوار، فجاء في الفقرة الثالثة من بيانها الوزاري: "العمل على وضع استراتيجية وطنية شاملة لحماية لبنان والدفاع عنه يُتّفق عليها في الحوار الذي سيدعو إليه فخامة رئيس الجمهورية بمشاركة الجامعة العربية وذلك بعد نيْل الحكومة الثقة في المجلس النيابي".
مسلسل جلسات الحوار:
المرحلة الأولى: الحوار من أجل الاستقرار
ابتدأت جلسات هيئة الحوار في 16 أيلول 2008 واستمرّت حتى تشرين الثاني 2010، وبدا واضحاً أنّ وتيرة الاجتماعات المكثّفة هدفها العناية بالوضع الداخلي ورأب التصدّعات التي أحدثتها الصدامات المسلّحة التي سبقت اتّفاق الدوحة، ومواكبة الاستحقاقات المحليّة، ولا سيّما إجراء الانتخابات النيابية والبقاء على تواصل مع الدول العربية الراعية لاتّفاق الدوحة من أجل المحافظة على الاستقرار قبل أيّ هدف آخر. هذا وقد أضفى حضور الأمين العامّ لجامعة الدول العربية عمرو موسى الجلسة الأولى بُعداً عربيّاً ضامناً للحوار اللبناني.
لم يقارب المشاركون في الحوار على امتداد اثنتي عشرة جلسة عُقدت في بعبدا والمقرّ الصيفي في بيت الدين مسألة نزع السلاح، بل اتّسقت مداخلاتهم مع البيان الوزاري للحكومة ومع خطاب القسم الذي أعلن صراحة ثلاثيّة "الجيش والشعب والمقاومة" في الدفاع عن لبنان. انطلقت المداخلات من تأكيد ضرورة تنفيذ ما اتُّفق عليه في جلسات الحوار التي دعا إليها الرئيس نبيه بري في العام 2006، ولا سيّما السلاح خارج المخيمات (غسان تويني)، وتناولت مفاهيم عديدة تتعلّق بدور لبنان كـ"الحياد الإيجابي" و"لبنان مختبر للحوار بين الديانات والثقافات" (وليد جنبلاط وأمين الجميّل). تساءل الجميل عن ركائز الجمهورية الأساسية في لبنان مقارِناً بين التحرير في بلاد العالم الذي يقود إلى الوحدة والتحرير في لبنان الذي يقود إلى التشرذم، معتبراً أنّ هذا الحوار هو فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة. وقد أعطى الرئيس نبيه بري خلال الجلسات أولويّة للبنانيّة مزارع شبعا، واقترح جنبلاط آليّة التحديد قبل ترسيم الحدود.
ابتدأت جلسات هيئة الحوار في 16 أيلول 2008 واستمرّت حتى تشرين الثاني 2010، وبدا واضحاً أنّ وتيرة الاجتماعات المكثّفة هدفها العناية بالوضع الداخلي ورأب التصدّعات التي أحدثتها الصدامات المسلّحة التي سبقت اتّفاق الدوحة
أكّدت تلك المقدّمات حذاقة نظريّة في الدوران حول الموضوع، وحفلت البيانات الختامية الصادرة عن الجلسات بجملة تساؤلات مشروعة أظهرت الهواجس الحقيقية للمشاركين في الحوار، كالمهلة الزمنية لكي يصبح الجيش قادراً على الدفاع عن لبنان (ميشال المر) والتحذير من الفتنة والتأكيد أنّ الدولة هي الحلّ (سعد الحريري)، فيما أكّد الرئيس ميشال سليمان على استراتيجية تتكامل فيها كلّ عناصر القوّة وتندرج تحت مفهوم الدولة في الدفاع عن أرضها في إطار السياسة العامّة للبلاد، وعلى تقوية الجيش والوحدة الوطنية وانتظام عمل المؤسّسات.
وفي محاولة لأخذ النقاش نحو خواتيم جدّية تمّ الاتّفاق على أن يتقدّم كلّ من المشاركين برؤيته حول الاستراتيجية الدفاعية بحيث تقوم لجنة من الخبراء بدراسة واستخلاص الجوامع المشتركة تمهيداً لاقتراح مشروع موحّد تتمّ مناقشته. قُدّمت أوراق من مختلف الفرقاء، باستثناء حزب الله، كانت آخِرتها الورقة التي تقدّم بها الدكتور سمير جعجع مطالباً بوضع المقاومة بتصرّف الجيش من دون الإفصاح عن مكان وجودها وقدراتها.
توقّف الحوار بعد ذلك وتعدّدت الأسباب المعلنة من قِبل كلّ من المشاركين، فمنهم من اعتبر أنّ الحوار غير مجدٍ، ومنهم من اعترض على امتناع حزب الله عن تقديم استراتيجيّته. وقد ساهم سقوط حكومة الحريري بتاريخ 25/1/2011 بعد استقالة وزراء التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله على خلفيّة الموقف من المحكمة الدولية بوقف الحوار، ووفّر العجز عن تطبيق ما اتُّفق عليه في جلسات الحوار السابقة قرينةً كافيةً على عدم جدوى الاستمرار في الحوار.
المرحلة الثانية: استئناف الحوار.. إعلان بعبدا كان حاجة لحزب الله على وقع الحرب السوريّة:
تفاعلت جغرافيا الحدود اللبنانية مع ديناميكيّات الصراع السوري بطرق عديدة، فكان انتقال شرارات الصراع إلى العديد من النواحي اللبنانية أمراً حتميّاً. اندلعت أولى الاشتباكات على الحدود السورية اللبنانية، ولا سيّما في البقاع الشمالي وعكار، في تشرين الأول 2011، وتمثّلت بمطاردة قوات النظام السوري لجماعات المعارضة عبر الحدود أو بقصف القرى التي قدّمت الدعم لمقاتلي المعارضة السورية. وقد حاول الجيش اللبناني الانتشار للسيطرة على الموقف في هذه المناطق الحدودية ولوقف تدفّق الأسلحة والدعم من لبنان إلى سورية، ومن أجل تجنّب عدم الاستقرار الذي سينجم عن تصعيد الضربات السورية على لبنان، لكنّ الحوادث والاشتباكات تواصلت وازداد تواترها وشدّتها.
من جهة أخرى، تعذّر على النظام السوري الإبقاء على ممرّ برّيّ دائم بين العاصمة دمشق في جنوب غرب سورية وطرطوس على البحر المتوسط في شمال غرب سورية، بسبب المعارك الدائرة حول مدينة حمص، فكان لا بدّ من طريق بديل يمتدّ من سهل البقاع في لبنان عبر منطقتَيْ البقاع الشمالي والهرمل، ومنها إلى الساحل السوري وطرطوس.
انعكست تداعيات مناورات النظام السوري على الاستقرار في شمال لبنان، فاندلعت احتجاجات صاخبة في مدينة طرابلس وأجزاء أخرى من الشمال، حيث أخذت الجماعات السلفيّة، التي لم يكن لها سوى عدد قليل من المناصرين في المدينة، زمام المبادرة في النزول إلى الشوارع رافعةً الشعارات المناهضة لنظام الأسد، وقد مثّلت الاحتجاجات الواسعة المسلّحة إعلاناً صريحاً عن تأييد الثورة السورية. ومع احتدام الأزمة في الشمال، نشطت عمليات الخطف التي قامت بها المعارضة السورية في مناطق سورية عديدة للبنانيين من الطائفة الشيعية على خلفيّة انتمائهم إلى حزب الله ودعمهم للنظام السوري. اتّسمت ردود فعل حزب الله على عمليات الخطف بالهدوء، فعمد إلى سحب المتظاهرين من الشوارع واعتمد على الحكومة كي تفاوض على إطلاق سراحهم.
في ظلّ هذه الأجواء، دعا الرئيس ميشال سليمان في 11 حزيران 2012 إلى اجتماع لهيئة الحوار الذي كان متوقّفاً منذ تشرين الثاني 2010 "استدراكاً للمخاطر المحيطة بالوطن التي أصبح من الملحّ التوافق على طريقة معالجتها". وقد نصّت الدعوة على مناقشة الاستراتيجية الوطنية الدفاعية، ومن ضمنها معالجة موضوع السلاح من ثلاثة جوانب:
أ- سلاح المقاومة وكيفيّة الاستفادة منه إيجاباً للدفاع عن لبنان، والإجابة على الأسئلة التالية: لماذا يُستعمل؟ متى؟ كيف؟ وأين؟
ب- السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات وكيفيّة إنهائه، والسلاح داخل المخيّمات وكيفيّة معالجته، تنفيذاً لمقرّرات مؤتمر الحوار الوطني.
ج- نزع السلاح داخل المدن وخارجها.
استلزمت حراجة الموقف ودقّته حضور جميع الفرقاء هذا الاجتماع الذي انتهى بصدور "إعلان بعبدا" مذيّلاً بتوقيع جميع المشاركين في الجلسة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى تضافر عدّة عوامل أملت المقاربة الجريئة لِما اعتُبر سابقاً من المحرّمات:
- في طليعتها الريبة من تسرّب الصدامات بين النظام السوري والمعارضة إلى الداخل اللبناني وتهديد الأمن الوطني برمّته، ولا سيّما أمن المناطق الواقعة تحت سيطرة حزب الله، وهو الأمر الذي سيُدخل لبنان في حلقة من الاقتتال الداخلي لا تنتهي، خاصة أنّ المعارضة السورية تحظى بتأييد واسع في لبنان.
- وثانيها انهيار المكتسبات التي تحقّقت في الدوحة، ومعها انهيار كلّ المقدّمات النظرية التي يستند الحزب إليها في التسويق لمسوّغات سلاحه.
لقد اتّسق إعلان بعبدا مع الدستور اللبناني ومع الميثاق الوطني (بشارة الخوري ورياض الصلح) أكثر من أيّ وثيقة أخرى:
- لا سيّما ما جاء في البند 12 منه: "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية... ما عدا ما يتعلّق بواجب الالتزام بمقرّرات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم".