راغدة درغام
كل تلك «الاستراتيجيات» للولايات المتحدة وروسيا وتركيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والسعودية ومصر والإمارات وقطر وغيرها من الدول المنخرطة في التحالفات والغارات في سورية والعراق واليمن وليبيا يدّعي أصحابها الفكر الاستراتيجي فيما ما يفعلونه حقاً لا يرتقي إلى أكثر من مرتبة التكتيكات. لعل لدى إيران وحدها رؤية استراتيجية وهي تخوض الحروب بالنيابة بعيداً عن مدنها وقراها – شأنها شأن روسيا وأميركا وأوروبا حيث خسارة الشعوب العربية في سورية والعراق واليمن تُدفّع فدية للرابح الإيراني. إنما في طيّات مظاهر التماسك، هناك معركة خفية تقع قبيل الانتخابات الإيرانية تُستخدم فيها أوراق تكتيكية من أجل بلورة رؤية استراتيجية متميزة عن تلك السائدة في الحكم في طهران والمتمثلة في شخص المرشد علي خامنئي وموقعه بين اعتدال الرئيس حسن روحاني وطاقمه وبين تطرف «الحرس الجمهوري» وقائده الفعلي قاسم سليماني الذي يُشرف على الحروب الإيرانية في العراق وسورية واليمن ولبنان. مواقع تلك المعارك السياسية هي الداخل الإيراني إنما المعارك العسكرية الإيرانية في الدول العربية تلعب دوراً مهماً في التموضع السياسي للاعبين الأساسيين الذين يتقنون أيضاً فن المقايضات والمزايدات في الحروب وفي المفاوضات. وهذا تماماً ما تفتقده الدول الأخرى الجالسة مقابل إيران على الطاولة وفي ساحات المعارك – حنكة التزاوج بين الاستراتيجية والتكتيك.
روسيا، مثلاً، تعتبر نفسها الآن صاحبة القرار الطاغي في سورية لكنها في الوقت ذاته تنزلق في التورط غير قادرة على تنفيذ ما أعلنته من نية الانسحاب في غضون 3 أشهر من بدء غاراتها العسكرية في سورية. فرنسا رزمة تكتيكات بلا استراتيجية. بريطانيا تعترف بقصر الرؤية الاستراتيجية وهي تراقب روسيا تقصف رجال المعارضة السورية الذين تريدهم بريطانيا الرجال على الأرض لغاراتها الجوية. أما الولايات المتحدة، فإنها إما بارعة في التغطية على استراتيجية خفية مكبلة فيما سلسلة التكتيكات تبدو فاشلة، أو إنها حقاً تبحث عن استراتيجية في خضم تراكم التكتيكات المتناقضة. فأين نحن، وما العمل؟
هذه الحرب على «داعش» و «القاعدة» ومشتقاتها لا تبدو جدية ولن تكون مجدية إذا استمرت السياسات الدولية على ما هي عليه.
تقرير للأمم المتحدة صدر هذا الأسبوع كاد يحتفي بأن مقاتلي تنظيم «داعش» في ليبيا، عددهم ما بين 2000 و3000 مقاتل معظمهم من الليبيين الذين قاتلوا في العراق وسورية، عادوا إلى ليبيا أواخر 2013 ليجدوا أن التنظيم «لا يلقى قبولاً من السكان، ويواجه صعوبات في بناء تحالفات محلية، وهو لاعب من بين عدة تنظيمات أخرى». وكما جاء في تقرير لجنة خبراء إلى مجلس الأمن، أن عدم قدرة التنظيم على استخدام عائدات النفط كمورد أساسي بسبب افتقاره إلى الموانئ والأنابيب والقدرة على معالجة النفط، قيّدت قدراته، إنما في الوقت ذاته «يواصل توسيع رقعة سيطرته» في البلاد.
الأخبار السارة هي أن سكان ليبيا لا يتقبلون مقاتلي «داعش» الليبيين العائدين إلى البلاد، وأن أولئك لا عائدات نفطية لديهم. الأخبار السيئة هي أنه على رغم ذلك يوسع التنظيم رقعة سيطرته، وهو مجرد لاعب بين عدة تنظيمات.
ليس هناك استراتيجية لدى حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي مزّق ليبيا وهجرها فور تمزيقها. الإمارات وقطر اختلفتا جذرياً حول الهوية الليبية التي كانت تُصنَع، وكل منهما اختار الجهة التي يؤمن بها لدعمها كاملاً. مجلس الأمن رفض طلب مصر وليبيا برفع الحظر العسكري عن الحكومة المعترف بها شرعياً كي تتمكن من محاربة «داعش» و «القاعدة» وغيرها من التنظيمات. عيّن الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثاً وراء مبعوث، وباءت المفاوضات بالفشل بسبب عمق الخلافات الليبية – الليبية. وفيما غض مجلس الأمن النظر عن ليبيا، دفنت الدول الكبرى رؤوسها في الرمال إزاء تنامي «داعش» و «القاعدة».
«التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «داعش» في العراق يضم مجموعة كبيرة من الدول العربية والغربية. واشنطن اختارت إيران الشريك أو الحليف الصامت في الحرب على «داعش» في العراق. سكتت على تجاوزات «الحشد الشعبي» وعلى «الميليشيات الشيعية» التي نصبتها إيران حليفاً للولايات المتحدة في ساحة المعركة. كانت واشنطن تدرك تماماً أن ذلك سيؤجج النعرة الطائفية بين السنّة والشيعة داخل العراق، كما أنه سيؤدي إلى تراخي حماسة الدول العربية الأعضاء في التحالف، لا سيما إذا لم يرافق الزخم العسكري زخم سياسي يتمثل في إصلاحات تجذب سنّة العراق للتحالف ضد «داعش».
صحيح أن الأكراد حليف مهم في الحرب على «داعش» وأن لإيران الحق بأن تدخل طرفاً في الحرب على هذا التنظيم، إنما الصحيح أيضاً هو أن لا مجال أبداً للربح في هذه الحرب ما لم يكن السُنَّة العرب طرفاً مباشراً فيها على الصعيدين الشعبي والحكومي. وطالما تنظر العشائر والقبائل إلى الأمور بشكوك في الغايات الأميركية – الإيرانية، وطالما لا تلمس ترغيباً جدياً لها عبر إصلاحات سياسية، لن تتحمس وستبقى هذه الحرب عرجاء وناقصة في العراق كما في سورية.
الولايات المتحدة مُتهَمة بتغذية الصراع السنّي – الشيعي عبر الحرب الإيرانية – العراقية التي كانت فيها حليفاً لصدام حسين. طهران سامحت واشنطن بعدما خلّصها الرئيس جورج دبليو بوش من صدام حسين بغزوه العراق – وكذلك من عدوها «طالبان» في أفغانستان – في آن واحد. ثم إن إصرار الرئيس باراك أوباما على الاتفاق النووي معها وعدم محاسبتها على أدوارها في سورية والعراق واليمن ولبنان بات الإسمنت الذي عزز المسامحة وإغلاق صفحة الماضي. لكن طهران لن تسامح أبداً الدول الخليجية التي تحالفت مع الولايات المتحدة في دعمها لصدام حسين أثناء تلك الحرب الطويلة. وهذا من أهم أسباب العداء الإيراني لدول الخليج والذي لن يزول بسهولة وتدفع ثمنه سورية والعراق واليمن.
إدارة أوباما مُتهمة أيضاً بأنها ترى أن الوسيلة لمحاربة الإرهاب السنّي هي تحريض الإرهاب الشيعي ضده، أما بشراكة الأمر الواقع معه كما في العراق، أو بغض النظر عنه كما في سورية، أو بترك الساحة له لينمو، كما في اليمن.
في اليمن، ينمو تنظيم «القاعدة» ويستعيد سيطرته على المناطق التي يخليها الحوثيون لأن الولايات المتحدة التي كانت ناشطة سابقاً في محاربة «القاعدة» في اليمن عبر حرب الطائرات بلا طيار drones، لم تعد ناشطة ولا تهتم. فهذا هو الوقت الضروري الآن لتمكين الحكومة اليمنية من السيطرة على المناطق التي تستعيدها كي لا تملأ «القاعدة» الفراغ. وهذا لن يحصل لأن الأسرة الدولية، بالذات الولايات المتحدة، ليست مستعدة للمساعدة في هذا المسعى.
استكمال المفاوضات اليمنية التي يرعاها المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد وتتويجها في اتفاق في أقرب وقت ممكن يشكل حجراً أساسياً لاستراتيجية خروج من اليمن. ومن مصلحة دول التحالف العربي وقف الاستنزاف والنزيف الذي تريده لها بعض الدول الفاعلة الإقليمية منها والدولية.
ولعل المقارنة بين غارات التحالف في اليمن وغارات روسيا في سورية مقارنة مفيدة من ناحية عدم تمكّن الغارات بمفردها من إتمام المهمة العسكرية، ومن ناحية الحاجة إلى العملية السياسية الدولية كأداة أساسية لاستراتيجية الخروج. فموسكو في أشد الحاجة إلى عملية فيينا في شأن سورية التي أطلقتها بشراكة دولية وعهدت بها إلى المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لتتمكن من إيقاف عملياتها العسكرية قبل أن تتورط وتنزلق وتُستنزَف وتنزف أكثر فأكثر.
وحتى ولو تعذّرت موسكو وواشنطن بأن غاراتهما هي ضد وحش الإرهاب، أن في هذه المناطق أبرياء لا يمكن اعتبارهم مجرد «أضرار جانبية». كذلك الأمر بالنسبة للتحالف العربي في اليمن.
العلاقة الروسية – السعودية تمر في هذه المرحلة باليمن وبسورية معاً إذ إن الرياض في حاجة إلى موسكو في اليمن، وموسكو في حاجة إلى الرياض التي تستضيف قريباً أقطاب المعارضة السورية في محاولة لمّ الشمل الضرورية لإنجاح عملية فيينا. عقدة الخلاف ما زالت حول مصير بشار الأسد في مستقبل سورية وحول المبيعات العسكرية الروسية المتطورة إلى إيران. هذه ليست عقداً طفيفة، بل إن معالجتها ملحّة إذا كان للتفاهمات السياسية أن تنتج بديلاً عن المستنقع والاستنزاف. موسكو والرياض تدركان ذلك جيداً. الرياض تدرك أنها لن تتمكن من فك التحالف الروسي – الإيراني وما تطمح إليه حالياً هو تحسين العلاقة الروسية – السعودية عامة. موسكو لا تريد لتحالفها مع إيران في سورية بجانب بشار الأسد أن يكون موقع انزلاق قدمها في وحول متحركة، ولذلك تتأنى.
إيران بدورها تقرأ التحولات والتطورات وتحسب حساباتها التكتيكية والاستراتيجية، لكنها ليست مُصانَة. فهي تلعب عدة أوتار بإفراط الثقة بنفسها في زمن تلبّد الرؤى الاستراتيجية. فالميليشيات التي تصدرها طهران إلى سورية، مثلاً، تقاتل بجانب النظام في دمشق وتقتل عمداً أقطاب المعارضة الذين تعتبر بريطانيا أن لا غنى عنهم في ساحة الحرب السورية، وتعتقد أن عددهم حوالى 70 ألفاً. فإذا كانت روسيا وإيران واثقتين من أن واشنطن ولندن والرياض وأنقرة وباريس ستبارك حملة سحق المعارضة السورية التي تمثل للتحالف الدولي «القوات على الأرض» لعل في الأمر تفاهماً أعمق مما يبدو، فإذا ارتأت العواصم التي تعارض استمرار موسكو في سحق المعارضة السورية بدلاً من «داعش» أن هذا يضرب مصالحها، عليها أن تبيّن ذلك في مواقف جادة وجدية لدى كل من طهران وموسكو، وإلا ترسخ الانطباع حول «داعش» كالبدعة الوهمية نفسها.