عندما كانت الأحزاب وطنية كان الحكم للأكثرية ووقت أصبحت مذهبية صار لـ"فيديرالية الطوائف"
اميل خوري
عندما كان في لبنان حزبان وطنيان هما: حزب "الكتلة الوطنية" وحزب "الكتلة الدستورية" وفي كل منهما شخصيات من مختلف المذاهب والمناطق، كان يحكمه الحزب الذي يفوز بالانتخابات بالأكثرية النيابية فتكون له رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس ورئاسة الحكومة والوزراء تطبيقاً للديمـــوقراطيـــة الصحيحــة. ولكن عنما أصبحت الأحزاب في لبنان أحزاباً طوائفية لم يعد في الإمكان أن يحكم حزب الأكثرية كما تقضي الديموقراطية إنما بائتلاف أحزاب، ليس تمثيلاً لها فحسب، إنما تمثيلاً لكل طائفة، ولم يعد في الإمكان مع مثل هذه الأحزاب تطبيق الديموقراطية العددية بل تطبيق الديموقراطية التعددية أو ما يسمى "الديموقراطية التوافقية" التي جعلت لكل طائفة ممثلة في الحكم حق "الفيتو".
لذلك لا يمكن إلزام أي مرشح للرئاسة برنامج أي حزب شرطاً لانتخابه ولا خطاً سياسياً معيناً لأي تكتل أو جبهة لأنه يصبح رئيسياً لفريق دون آخر، في حين ينبغي أن يكون رئيساً لكل اللبنانيين ولا يلتزم إلا قَسَم اليمين الذي يؤديه وحده من بين كل المسؤولين في الدولة. وقسمه هذا يحلّه من كل ارتباط حزبي، لا بل إنه إذا كان حزبياً وانتخب رئيساً فعليه أن يستقيل من الحزب. كما أن القسم يحلّه من كل ارتباط ومن كل خط سياسي يجعله مع فريق دون آخر ليكون فعلاً الرئيس الحاكم والحكم بعدالة وانصاف. ويحاكَم عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى أمام المجلس الأعلى، ويكف عن العمل عندما يتهم وتبقى سدة الرئاسة خالية الى أن يفصل المجلس الأعلى في القضية (المادتان 60 و61). فلا التزام إذاً لرئيس الجمهورية إلا بقسمه أمام البرلمان ونصه: "أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه". ولا التزام له بغير هذا القسم كي يكون رئيس كل اللبنانيين لا رئيساً لفئة منهم يلتزم خطها السياسي ضد خط فئة أخرى، خصوصاً عندما يكون اللبنانيون منقسمين انقساماً أفقياً وعمودياً كما هم اليوم، وكل طرف يشترط لانتخاب لارئيس أن يكون في خطه السياسي، وهذا ما جعل البطريرك الكاردينال الراعي يقول بانتخاب رئيس مقبول كي يستطيع أن يحكم.
لقد أيّد "الحلف الثلاثي" المؤلف من شمعون والجميّل وإده انتخاب سليمان فرنجيه الذي كان من تكتل الوسط رئيساً للجمهورية ظناً من أركانه أنه سيمارس سياسة تصفية الحساب السياسي مع ضباط ما كان يُعرف بـ"المكتب الثاني" فيحيلهم على المحاكمة ويغيّر حاكم مصرف لبنان الياس سركيس. لكن روما من فوق هي غير روما من تحت، فجدّد الرئيس فرنجيه بعد انتخابه لسركيس حاكماً للمصرف، ورفض إحالة ضباط في "المكتب الثاني" على القضاء. وكانت هذه السياسة سبباً لخلافه مع بعض أركان "الحلف الثلاثي" ومع النواب الذين كانت لهم مواقف متشددة من هؤلاء الضباط. وهذا معناه أنه لا يجوز إلزام أي مرشح للرئاسة بسياسة لا يستطيع الإلتزام بها وإلا كان رئيساً لفريق لبناني دون آخر. فالرئيس في ظل وضع دقيق كما هو في لبنان والمنطقة حالياً لا يستطيع أن يحكم إلا بالتوافق، وعندما يؤدي القسم فإن هذا القسم يحرره من التزاماته بالمحاور السياسية والمذهبية كما قال الرئيس السابق العماد ميشال سليمان في خطابه لمناسبة إعلان "وثيقة لقاء الجمهورية"، معتبراً أن "بعبدا من فوق ليست بعبدا من تحت".
فعلى القوى السياسية الأساسية في البلاد أن تتفق على انتخاب رئيس موثوق به ومقبول من دون شروط مسبقة تفرض عليه، بل تفرض على الحكومة التي يتم تشكيلها بعد انتخابه، ومن خلال اتفاق من يشاركون فيها على البيان الوزاري الذي يرسم سياسة الحكومة الداخلية والخارجية، وهو البيان الذي تلتزم تنفيذه وتنال ثقة مجلس النواب على أساسه ثم تحاسب على أعمالها. فالدستور نصّ في أكثر من مادة فيه أن تنفيذها مرتبط بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة: مثل افتتاح العقود العادية واختتامها، والمفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، وإصدار مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم، ومراسيم إصدار القوانين.
لذلك ينبغي انتخاب رئيس للجمهورية قادر على أن يكون حاكماً وحكماً وفقاً لما نص عليه الدستور، ويلتزم قسم اليمين. أما سياسة لبنان الداخلية والخارجية فهي من مسؤولية الحكومة عندما تضع بيانها الوزاري ويوافق عليه رئيس الجمهورية وأعضاؤها وتنال ثقة مجلس النواب على أساسه.