رفيق خوري
أيام الإغريق كان من قوانين الحرب بين المدن - الدول امتناع كل طرف عن قطع الماء والغذاء عن العدو الذي يحاربه، بعد ستة آلاف سنة واتفاق جنيف الرابع لتنظيم الحروب وقرارات مجلس الأمن تحت العناوين الانسانية، يصدمنا في حرب سوريا التنافس بين الأطراف المتصارعة على محاصرة من تستطيع من السكان بسلاح التجويع بعد الترويع بالقذائف. وليس حصار مضايا بعد الزبداني كما حصار الفوعة وكفريا سوى صور في مشهد واسع يشمل بلدات وقرى وأحياء منكوبة في معظم المناطق السورية. والمخيف أكثر من ظلم الحصار هو التصرف على أساس أنه عمل مشروع في الحرب لضمان الربح في المعارك، واللامبالاة حيال صور أطفال وشيوخ تقطّع القلب كأنها من أرشيف الجوع في الصحراء الافريقية.
ذلك أن خطاب الحرب هو خطاب انتصارات إلهية من فوق رؤوس السوريين الذين تُدار الحرب باسمهم من دون التفات الى معاناتهم وخسائرهم وما بقي لديهم من أحلام. فعلى مدى خمس سنوات ونحن نسمع يومياً حديث السيطرة أو تبادل السيطرة على مواقع تسمى استراتيجية سواء كانت قرى أو محاور طرق أو تلالاً أو مجرد أبنية. وخلال خمس سنوات تحوّل نصف السوريين الى نازحين في الداخل ولاجئين الى الخارج، وتهدمت مدن تاريخية وأحياء ومصانع ومستشفيات ومدارس، وزاد عدد القتلى على ثلاثمئة ألف شخص والجرحى على ثلاثة أضعاف هذا الرقم، من دون أن يتأثر الخطاب الانتصاري بذلك.
لا بل ان سوريا التي تتقاسم السيطرة عليها جمهورية ودولة خلافة داعشية وإمارة قاعدية ومئات الإمارات تبدو كأنها سوريتان منفصلتان عن بعضهما البعض: سوريا التي تتحكم بها كائنات استراتيجية في النظام والمعارضة، بين السوريين وبين الآتين من كل بلدان العالم، من الذين في الجو مثل الأميركان والذين في الجو وعلى الأرض مثل الروس والذين على الأرض مثل الايرانيين وحلفائهم. وسوريا التي تكاد تضيع قضايا ناسها وهمومهم واهتماماتهم الانسانية في ضجيج الخطاب الاستراتيجي وتحت أثقال المتصارعين في الداخل ومطامح اللاعبين في الخارج.
واذا كان البابا فرنسيس يصف الذين يعيشون في أحياء الفقر بأنهم ضحايا أشكال جديدة من الكولونيالية بواسطة البلدان الغنية، فإن السوريين ضحايا أشكال قديمة وجديدة من الاستبداد والسلفية والتكفير وصراعات المصالح الحيوية للكبار في المنطقة والعالم. واذا كان سكوت فيتزجرالد يقول: اعطوني بطلاً وسأكتب لكم تراجيديا، فإن الذين يلعبون أدوار الأبطال في سوريا كثيرون، ضمن تراجيديا واقعية لم يكتبها أحد.
ولا أحد يعرف متى تنتهي التراجيديا السورية.