طارق ترشيشي
يقول راسخون في علم الاستحقاق الرئاسي إنّ التطورات والأحداث السياسية التي رافقت ولا تزال هذا الاستحقاق اوصلت الجميع الى اقتناع مفاده أن لا مجال لانتخاب ايّ ممَّن أسموهم «مرشحين اقوياء» رئيساً للجمهورية، «فتعالوا لنتفق على رئيس وسطي توافقي لإعادة الاعتبار الى مؤسسات الدولة المهددة بالانهيار...».
بعد انهيار ما طرح من مبادرات رئاسة في خلال الآونة الاخيرة والتي أطاحتها المعارضات والاعتراضات المحلية وجاءت التطورات الاقليمية المتأتية من التصعيد، بل الاشتباك السياسي والديبلوماسي، وربما العسكري غير المباشر الدائر بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية لتطلق «رصاصة الرحمة عليها»، ينتظر جميع الافرقاء السياسيين أن تلوح في الأفق المحلي والاقليمي والدولي فرصة جدية جديدة تتيح إمكانية انجاز الاستحقاق الرئاسي، ولكنّ أحداً لا يستطيع التكهن بموعد بروز هذه الفرصة، ففريق من الاوساط السياسية كان يتكهّن قبل الأحداث الأخيرة بأن ينتخب الرئيس في آذار المقبل،
وآخر توقع أن يكون في تموز بحيث تكون انقضَت الأشهر الستة الأولى من مندرجات حل الأزمة السورية التي حددها قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، وثالث متشائم ذهب إلى الحديث عن انّ الرئيس لن ينتخب قبل سنة وربما اكثر، آخذاً بقول جرير للفرزدق: «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً... فابشِر بطول سلامة يا مربع». فـ»الفررزدق» الذي استعجل انتخاب الرئيس لم يفلح حتى الآن، ما يعني انّ «مربع» الشغور الرئاسي باقٍ إلى أمد طويل.
ولذلك، عاد الاهتمام ليتركز على إمرار فترة الوقت الضائع الجديدة التي دخلها لبنان والمنطقة نتيجة المواجهة السعودية ـ الايرانية الجديدة، وذلك عبر العودة الى البحث في تفعيل الحكومة بما يعيد مجلس الوزراء الى الانعقاد اسبوعياً وكلما دعت الحاجة، على ان يؤسّس هذا التفعيل الى تفعيل مماثل للعمل التشريعي في مجلس النواب، بما يعيد هاتين المؤسستين الدستوريتين الى العمل الطبيعي لأنه ثبت انّ تعطيلهما الذي أراد البعض منه ان يعجّل بانتخاب رئيس جمهورية جديد لم يحقق هذه النتيجة «فهذا الدواء لم يصلح لهذا الداء»، حسبما قال رئيس مجلس النواب نبيه بري ولا يزال على طاولة الحوار بين قادة الكتل النيابية وخلال لقاءاته واجتماعاته مع زوّاره المحليين والدوليين.
لكنّ موضوع التفعيل الحكومي تتجاذبه وجهتا نظر متناقضتين يخشى ان يمنع تناقضهما هذا حصوله بالفعالية المطلوبة في هذه المرحلة.
وجهة النظر الأولى ويتبنّاها مقاطعو الحكومة ومجلس النواب تقول انّ التفعيل من شأنه ان يطيل الشغور الرئاسي اكثر فأكثر، لأنّ الحكومة المُراد تفعيلها تمارس صلاحيات رئاسة الجمهورية بالوكالة استناداً الى الدستور.
وبالتالي، فإنّ هذا التفعيل في ظل عدم الاتفاق بين القوى السياسية على انتخاب رئيس للجمهورية واستمرار الخلاف عليه، من شأنه ان ينسي الجميع في الداخل، وربما في الخارج، الاستحقاق الرئاسي، وفي هذه الحال يتعايشون مع واقع استمرار الحكومة في مهماتها ما دام انتخاب رئيس الجمهورية غير متاح، سواء بفعل الخلافات الداخلية او بفعل تصاعد الازمات الاقليمية وغياب المظلة التوافقية الاقليمية الدولية التي غالباً ما ظللت ولا تزال الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية المتوالية منذ فجر الاستقلال عام 1943.
ولذلك لا يحبذ اصحاب وجهة النظر هذه تفعيل الحكومة لكي يبقى شللها عنصراً ضاغطاً على الجميع ويحضّهم للاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية العتيد.
امّا وجهة النظر الثانية، فتقول انّ الخلاف السائد بين القوى السياسية حول الاستحقاق الرئاسي من الصعب تذليله نظراً للأبعاد الاقليمية والدولية التي تتحكم به، ولو كان الامر غير ذلك لكانت المبادرة ـ الفكرة التي طرحها الرئيس سعد الحريري مع زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية وحَظيت، كما قيل، بدعم اميركي ـ فرنسي ـ فاتيكاني ـ سعودي، قد بلغت الخواتيم المرجوة منها، ما يعني انه في ظل انعدام التوافق الاقليمي ـ الدولي على حلّ الأزمات الاقليمية ومنها ازمة لبنان، لا يمكن للافرقاء السياسيين اللبنانيين إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
ولذلك، وفي انتظار تبلور ذلك التوافق لا بد من تفعيل عمل الحكومة، بما يمكنها من معالجة شؤون البلاد والعباد بفعالية تعوّض وجود رئيس الجمهورية الذي تمارس صلاحيته بالوكالة الى حين انتخابه، في الوقت الذي ينبغي على مجلس النواب ممارسة عمله التشريعي، إذ لا يجوز ان يتوقف التشريع في اي حال خصوصاً انّ هذا المجلس هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية ولا ينبغي تعليق صلاحياته التشريعية أو تعطيلها بحجة انه لا يجوز له ممارستها في ظل الشغور الرئاسي، فيما نصوص الدستور تفرّق بين جلسة انتخاب الرئيس وبين استمرار المجلس في جلساته التشريعية التي تقرّ فيها القوانين التي تسيّر شؤون البلاد ومصالح الدولة والشعب.