«الحياد الدولي».. و»النأي بالنفس اللبناني»..!
يحي احمد الكعكي
عاد الحديث عن «النأي بالنفس» كـ»نظام سياسي» لـ»الدولة اللبنانية المغيّبة»، في كل أمر عربي يتطلب «الإجماع» فـ»يشذ» لبنان الحالي عن هذا الإجماع، ويلجأ الى «النأي بالنفس» ليبرّر عدم وقوفه مع «الإجماع العربي».. وهو سلاح يلجأ إليه من قِبل الجهة الرسمية المسؤولة عن السياسة الخارجية، وكأنّ هذه الجهة هي «لبنان الحالي» لا السلطة التنفيذية..؟
ويعني «النأي بالنفس» في «علم السياسية» -الحياد Neutralité» وهو يعني أمرين مترابطين ببعضهما البعض، وإلاّ كان «النأي بالنفس» -لعبة سياسية- يُلجأ إليها «غُب الطلب» من يريد أن يخدم مصالح «الفريق» الذي يمثل لا أكثر ولا أقل!
و»حياد لبنان» الحقيقي طُرح كـ»نظام سياسي» في لبنان في أواخر الخمسينات من القرن الـ20 الماضي.. ثم في أعوام 1967 و1969 و1973.. ثم عاد الى الظهور طوال أعوام الحرب القذرة 1975- 1989، ثم غاب ليعود في عامي 2001 و2006.. ثم عاد ليطل مرة جديدة الى «الصورة السياسية» مع دخول المحيط العربي لـ»لبنان» في عصر «الفوضى الهدّامة»! أو ما أطلق عليه في الغرب زوراً بـ»عصر الربيع العربي»!
على كلٍ، أعود وأشير الى أن «الحياد» -أو «النأي بالنفس»كـ»نظام سياسي» هو ما تعرّفه اتفاقيات «لاهاي الدولية 1899 و1907 بـ»Neutralité» وهو يعني أمرين مترابطين ببعضهما البعض، إذا فقد أحدهما فُقد الآخر.. ولم يعد «الحياد» حياداً..! وهما:
1- «تصرّفاً حراً» تتخذه «دولة ما» بإرادتها في نطاق اختصاصاتها المفرزة، ويطلق على هذا الحياد «الحياد الإرادي» الموقت -Volontaire Temporaire- وهو بذلك يتميّز عن «الحياد الاتفاقي» الدائم -Conventionnelle Permanente-، الذي يمثل حال «دولة» مُلزمة بموجب معاهدة دولية (ما) باحترام الحياد، في كل الحالات، وألاّ ترتبط أبداً بحرب هجومية.
2- «نظاماً قانونياً» يرتب مجموعة من الحقوق والإلتزامات على الدول التي تختاره، أو على الدول التي تحترمه بموجب معاهدة دولية.
وفي هذا السياق، نشير الى أن واجبات الدول المحايدة تدور حول نقطتين رئيسيتين وهما: «الإمتناع»، و»عدم التحيّز».
1- وقد تحدد واجب «الإمتناع» ابتداء من نهاية القرن الـ18، وهو يحظّر على الدولة المحايدة منح أية مساعدة لأحد المتحاربين، إما مباشرة من جانبها كدولة، أو من جانب أفراد هذه الدولة.
ومع ذلك (وتطبيقاً للمبدأ العام الذي يقضي بأن «الحياد» شأنه شأن «الحرب»، علاقة دولة بدولة) فإن الدول المحايدة لم ترد أن تكفل بوسائلها الخاصة امتناع تابيعها عن قيامهم بتصرفات تتعارض مع «الحياد».
ولذلك اتجه الفقه والعمل معاً الى فكرة «المخاطرة» -وأرجو ان يُقرأ ذلك جيداً- والتي بمقتضاها يتحمل الأفراد المحايدين مخاطر عملهم إضراراً بأحد المحاربين، الذي له أن يوقع عليهم الجزاءات المناسبة لعملهم الضار إخلالاً بواجب «الإمتناع» .
وهكذا لا تتحمّل «الدولة المحايدة» مخاطر تصرفات تابعيها، ولا يترتب عليها أي مسؤولية عن تصرفاتهم ازاء المحاربين، وواجب الدولة المحايدة الوحيد هو أن «تسحب حمايتها» عن أشخاصها، وأن تترك المحارب المتضرر يتصرّف تجاههم حماية لمصالحه.
2- عدم التحيّز impartialité، ويتطلب الحياد كذلك من الدول المحايدة، أن تلتزم جانب المعاملة المتساوية لكل المتحاربين، ولا يوجد ما يسمّى بـ»الحياد الخيّر» أو «المجامل»، لأحد المتحاربين، لأن العمل الخيّر أو المجامل هذا، يعتبر عملاً غير خيّر أو مجامل بالنسبة للطرف الآخر!
أما عن حقوق الدول المحايدة فتتلخص في خاصيتين:
1- عدم جواز انتهاك إقليم الدول المحايدة، وهو ما يدخل في اختصاصات «الحرب البرية»، وهو ما عبّرت عنه ديباجة اتفاقية «لاهاي» 1907، حينما أكدت على أنّ: «على الدول المحايدة واجب معروف يقضي بأن تطبّق القواعد التي تضعها تطبيقاً غير متحيّز في مواجهة مختلف المحاربين».
2- حرية علاقاتها مع جميع المتحاربين، وهو أمر يعني على الأخص الحرب البحرية.
وعلى هذا الأساس، فإن المطالبة بتعديل الدستور اللبناني، ليصبح بموجب هذا التعديل «الحياد» هو أساس «النظام السياسي» لـ»الدولة اللبنانية» بحسب الأسس الوارد ذكرها (أي أن يحاكي النظام السياسي الجديد التجربتين السويسرية والنمساوية)، هو «معادلة صعبة التحقيق» لأن تعريف «الحياد» دولياً هو «النأي بالنفس» عن «الأزمات والصراعات والحروب» ولكن ليس على «الطريقة اللبنانية» التي تتطبق حالياً على «مزاج» فريق معيّـن لتغيّب «لبنان» عن محيطه «القومي العربي» عبر أسلوب «الغالب والمغلوب»..