راغدة درغام
مرَّ رفع العقوبات الدولية عن إيران كأنه لم يحدث واكتفى مجلس الأمن الدولي بإضفاء الشرعية التلقائية على خلاص طهران من العقوبات بموجب الاتفاق النووي الذي صادق عليه بختم الإذعان. رفع الحظر عن الممتلكات الإيرانية يعني أن إيران ستحصل على حوالى 150 بليون دولار وقريباً على استثمارات موعودة قيمتها 50 بليون دولار في السنوات الخمس المقبلة. هذا يعد بنمو يعادل وفق تقدير الخبراء، حوالى 5 في المئة مما ينشل إيران من أزمة اقتصادية ويمكّنها من تنفيذ مشاريعها الداخلية والخارجية حتى في ظل انخفاض أسعار النفط عالمياً. تدخّل روسيا العسكري المباشر في سورية أدى إلى ارتياح نسبي للميزانية الإيرانية مع أن غالبية ميزانية طهران في السنوات الماضية لأهداف التوسّع الإقليمي أتت من الخزانة العراقية أثناء حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. الآن، وبعد رفع العقوبات الدولية عن طهران، سيتمكن «الحرس الثوري» من استكمال مشاريعه الإقليمية بهامش ارتياح اقتصادي كبير وسيتمكن أيضاً من خوض المعركة الداخلية مع ما يسمى صفوف الاعتدال في إيران براحة أكثر. فهو المستفيد الأول، اقتصادياً، فيما تيار الاعتدال الذي يترأسه الرئيس حسن روحاني بشراكة ديبلوماسية مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف وشراكة سياسية مع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يرتاح انتخابياً في الجولة الانتخابية الشهر المقبل. إدارة الرئيس باراك أوباما تراهن على تأثير الرخاء الاقتصادي الإيراني إيجاباً في تيار الاعتدال الذي لا يخرج أبداً عن حكم الملالي في طهران، وهي تتمنى أن يؤثّر ذلك سلباً في طموحات الهيمنة الإقليمية التي يتولاها تيار التطرف الذي يمثله «الحرس الثوري». هذه التمنيات، لو تحققت، لن تكون آنية. وبالتالي، لن تؤثر في مسيرة السياسة الإيرانية – الروسية في سورية الداعمة لنظام بشار الأسد وبقائه في السلطة. إنها تمنيات لن تفضي إلى حل الميليشيات الشيعية العاملة في سورية والعراق، ولا إلى حشد الدعم السني الضروري لمحاربة «داعش» وأمثاله في البلدين. وبالتالي، هناك حاجة للتفكير عملياً بوطأة رفع العقوبات عن إيران على النزاعات الإقليمية وكذلك على مصير حرب القضاء على «داعش». فإذا ارتأت واشنطن أنها ليست في وارد ما من شأنه أن يؤدي إلى اهتزاز العلاقة الجديدة التي بنتها مع طهران، فالثمن الآتي أضخم مما تتصوره، وقد تدركه بعد فوات الأوان. فالصفحة الجديدة في العلاقة الأميركية – الإيرانية باتت واقعاً يتطلب التدقيق البنّاء والمساءلة بثقة وشفافية وواقعية كي تكون هذه العلاقة مفيدة للطرفين وللعالم. الرضوخ هو استثمار في مصلحة قوى التطرف السنّي والشيعي على السواء وليس هناك ما يبرر الآن أن يبقى الإرضاء والانبطاح سياسة دائمة بعد رفع العقوبات. هناك فرصة، ربما، في أعقاب التوازن الذي قد تكون إدارة أوباما أرادته في علاقاتها مع السعودية وإيران – للاتزان والاضطرار إلى توازنات إقليمية جديدة.
العلاقة السعودية – الإيرانية ليست حالياً في طور التفاهم والمصالحة بل إن التصعيد الإعلامي يترك بصماته على شتى ملفات النزاعات الإقليمية. القاسم المشترك الجديد هو تأثّر البلدين بانخفاض أسعار النفط إلى دون الثلاثين دولاراً للبرميل. هناك من يعتقد أن الرياض ترفض تخفيض الضخ لأسباب تتعلق باحتياجاتها القومية وأن لا داعي لها لتخفيض الإنتاج لمصلحة روسيا وإيران لاسيما وأنهما في تحالف واضح على المستوى الثنائي وفي بقع الصراعات، بالذات في سورية. وهناك من يعتقد أن أحد أهم أسباب إصرار الرياض على الإبقاء على مستوى الإنتاج هو تكبيل إيران وروسيا اقتصادياً كي لا تتمكنا من الإنفاق الهائل على حربهما في سورية.
السياسات النفطية لا تتوقف عند العلاقة السعودية – الإيرانية ولا عند المزاحمة الجديدة في عالم النفط التي أتت على أيدي ما يسمى «بثورة الشايل» أي النفط الأميركي الصخري الغزير الذي أثّر جذرياً في السياسات الأميركية. بالطبع هناك اعتبارات أخرى، من متطلبات السوق، إلى حال الاقتصاد في الصين إلى إنفاق الدول المصدرة للنفط على حروب تخوضها مباشرة أو بالنيابة.
إنما ما يعتقده بعض خبراء النفط هو أن هبوط الأسعار سيضطر الأعداء التقليديين إلى وضع العداء جانباً للعمل معاً من أجل إنقاذ اقتصاد كل منهم، شاؤوا ذلك أم أبوا. يقول هؤلاء أن لا مناص من التفاهم لأن ذلك هو ما تقتضيه المصالح، وأن هامش التفاهم لن يتوقف على التسعيرة النفطية المرجوة وانما سيضطر المتنافسين إلى التفاهم سياسياً على المسائل العالقة إقليمياً.
قد لا يُطبَّق هذا المنطق على «الحرس الثوري» في إيران لأن تفكيره مقنّن في مشاريع الهيمنة الإقليمية وتصدير الثورة وهو يعتقد أنه تمكّن من المكابرة في زمن العزل والعقوبات، فما بالك في زمن رفع الحظر وتدفق الأموال؟ إنه يُطبَّق على قوى الاعتدال التي تريد رفع مستوى النمو الاقتصادي وإرضاء الناس وتنفيذ الوعود بالازدهار بدلاً من تنفيذ مشاريع التدخل العسكري وإنماء الميليشيات وفرض الهيمنة المكلفة في نهاية المطاف.
من هذا المنطلق، إن الصراع داخل إيران بين ملالي الاعتدال وملالي التشدد ليس هامشياً بالذات على عتبة الانتخابات في 26 شباط (فبراير) والتي تتزامن مع ضرورة التفكير بإفرازات أسعار النفط على الاقتصاد. من هذا المنطلق، أيضاً، من الضروري التمهّل في إجراءات فك الحظر عن الأموال المجمّدة ومشاريع الاستثمار. فللتوقيت تداعيات.
الأجدى بصنّاع القرار، بالذات على مستوى وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، استغلال الفسحة المتاحة للاستفادة من اضطرار كل من السعودية وإيران للتفاهم واختزال الخلافات بصورة عملية وواقعية. هذا يفيد روسيا والولايات المتحدة وكلاهما الآن منتج للنفط.
أما إذا كانا قد قررا أن انخفاض أسعار النفط ضروري لمصالحهما للسنوات القليلة المقبلة، فالأمر يختلف تماماً، ولا داعي لهما لرعاية تفاهم أو مصالحة سعودية – إيرانية. عندئذٍ، على الدول الشرق أوسطية المنتجة للنفط التفكير في خياراتها إن كانت في إطار جدوى تخفيض وتيرة النزاعات الإقليمية في الحروب بالنيابة، أو في إطار البديل عن الاعتماد الكلي على النفط.
هناك رأي لافت لخبراء الاقتصاد والتكنولوجيا في القطاع الخاص لاسيما من هم في مجال الإبداع التقني والاستثماري. رأيهم أن انخفاض أسعار النفط يعجّل، اضطراراً، الإصلاحات الاقتصادية الضرورية كي لا يكون النفط الأساس الوحيد في سياسات وواقع الدول في الشرق الأوسط، بالذات الدول العربية الخليجية.
فادي غندور، مؤسس شركة «ارامكس» وملهم الشباب الذين يحلمون بشركات ناشئة قال لمجلة «المعرفة وارتون» في جامعة بنسلفانيا أن عدة قطاعات تعاني من انخفاض أسعار النفط والغليان السياسي وعجز الميزانيات، فيما «مشهد الشركات الناشئة في المنطقة يتحرك في الاتجاه المعاكس». رأيه أنه «مع انخفاض أسعار النفط، تتخذ اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي الإصلاح الاقتصادي بجدية أكثر وتواجه التحديات الاقتصادية بصورة رصينة وواقعية».
الرصانة والواقعية ضروريتان لدى تقويم إفرازات الاتفاق النووي الإيراني وتأثير رفع العقوبات عن إيران داخلياً وكذلك في طموحات التوسع الإقليمية التي يتبناها «الحرس الثوري»، إن لم تكن الحكومة الإيرانية برمتها بقيادة المرشد علي خامنئي. النحيب والاندهاش لن يجديا مهما كان ذلك محقاً. استغراب كيف سوّق الرئيس الأميركي باراك أوباما صفقته المدهشة مع ملالي طهران فيما إيران ماضية في مشاريعها الإقليمية خارج حدودها، تفرض رؤيتها على العراق والميليشيات، تحرّض في اليمن، تتدخل عسكرياً في سورية كطرف في حرب أهلية وتشهر دعمها لبشار الأسد رئيساً دائماً. ففي وجه وضوح هذه السياسات، لا مناص من الرصانة والواقعية في تقويم عواقب وإفرازات هذه السياسات لتبني استراتيجيات تتعاطى مع الأمر الواقع إما للتعايش معه اضطراراً أو للانقلاب عليه بصبر وحنكة وطول نفس.
الاعتماد على رئيس أميركي يحل مكان أوباما ليكون الوصفة السحرية لمعالجة الداء انما هو من صنع الأوهام والتمنيات. صحيح أن المرشحين الجمهوريين يتحدثون بلغة تحميل أوباما مسؤولية الصفقة الإيرانية الخطيرة على الأمن القومي والمصالح الأميركية، كما يقولون، إلا أنهم لن يسرعوا إلى الانقلاب على الصفقة النووية ولا على العلاقة التهادنية مع ملالي طهران. هذا بات واقعاً. ما قد يفعلونه هو الضغط على طهران للكف عن السياسات التوسعية، إنما هذا لن يحدث لسنة على الأقل، ومع حلول ذلك الموعد وكما يقول المثل الشعبي يكون «الذي ضرب هرب، والذي مات مات».
لذلك إن المطلوب ليس فقط تخفيض التدخل العسكري في مناطق النزاع مثل سورية واليمن وانما أيضاً وقف التصعيد السياسي والإعلامي والديبلوماسي بين السعودية وإيران. فلا يجوز حرق السفارات ولا يجوز استخدام وزير خارجية إيران لغة كتلك التي استخدمها في صحيفة «نيويورك تايمز» مهما كانت اعتباراته الانتخابية.
ما يجب أن ينصب الاهتمام عليه هو كيفية إيقاف الحرب في سورية واليمن وإيقاف التدهور في مناطق هشة مثل ليبيا والعراق ولبنان. «داعش» عدو للسعودية كما هو عدو لإيران. الانتخابات الإيرانية قد تولد زخماً للاعتدال، انما هذا الزخم يحتاج مشاركة الرأي العام الإيراني لنقله إلى إجراءات ويحتاج أيضاً إيضاح الدول العربية المجاورة لهذا الرأي العام ان ما تعارضه هو التطرف والتدخل في الدول العربية، وما تريده هو وقف التصعيد المذهبي ووقف استنزاف الاقتصاد عبر الحروب أو عبر أسعار النفط.
ليكن هناك خطاب سياسي يدق عصب الضمير وعصب الرغبة بالحياة التطبيقية والازدهار. أطفال ونساء ورجال مضايا صورة حيَّة عن جرائم حرب ترتكبها الدول الداعمة لإجراءات النظام السوري بتجويع شعبه كأداة حرب. صورة يجب أن تدق ضمير الرأي العام في إيران. القاعدة الشعبية الإيرانية تريد الازدهار ما بعد التقشف الذي فرضته العقوبات والسياسات التوسعية في حروب إيران في سورية واليمن وفي صناعة الميليشيات.
لعل كلفة الحروب بالنيابة وتدهور أسعار النفط يكونان خيراً لمنطقة الشرق الأوسط وأجيالها التي تتطلع إلى حياة طبيعية بدلاً من السقوط في دوامة الإنهاك والاستنزاف.