رلى موفق
جولة مع رئيس «لقاء الجمهورية» حول إشكاليات الرئيس القوي وخطورة عدم توق
الثنائيات أياً كان مذهبها هي خارج العقد الاجتماعي الذي تشكّله وثيقة الوفاق الوطني
حازمٌ الرئيس ميشال سليمان في معارضته للاقتراح الانتخابي المختلط الذي دمج بين النسبية وبين ما يُعرف باقتراح «القانون الأرثوذكسي» القائم على أن تنتخب كل طائفة نوابها. تلك المعارضة تنطلق من أن اقتراح «الأرثوذكسي» يتناقض بمعدل 180 درجة مع الدستور اللبناني الذي ينصّ على إلغاء الطائفية السياسية كهدف وطني يقتضي العمل على تحقيقه بموجب خطة مرحلية. وفق قناعاته، التي يتشارك فيها مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليس بالضرورة أن يؤدي إلغاء الطائفية السياسية إلى إلغاء المناصفة بين الطوائف، بل هدفه إلغاء المناصفة بين الطائفيين، ووضع قانون انتخاب يحول دون وصولهم إلى البرلمان. وهذا الأمر لا يتأمّن بـ«القانون الأرثوذكسي» لأنه يأخذنا أكثر باتجاه تكريس الطائفية، بل بالذهاب نحو قوانين تستند إلى النسبية بمعايير واحدة، أو الذهاب نحو العلمنة، كي نبقى في منطق الدستور وليس خارجه.
هل نحن جاهزون للذهاب بخطوة نحو إلغاء الطائفية السياسية؟ يجيب سليمان بوتيرة صوت مرتفعة: «بالتأكيد الشعب جاهز، إنما مَن يطرح طروحات طائفية لا «يشوّش» على هذه الجهوزية فحسب، بل يخرق الدستور». وحتى مَن يعتبرون أنفسهم – من المسيحيين – أقوياء ويمثلون 86 في المئة، فإن الدستور أقوى منهم ومن الجميع. ويوماً بعد يوم يظهر أن مَن يخرج عن الدستور، لن يكون بمقدوره تطبيق ما يريد، والدليل أن الاقتراح الأخير سقط قبل أن يُولد.
ويروي سليمان كيف أنه بتصريح واحد – يوم كان رئيساً للجمهورية – أسقط اقتراح القانون الأرثوذكسي. يومها ذهب حاملوه إلى بكركي، التي قالت إنها «تدرس» ما إذا كان يؤمّن الحضور المسيحي، فكان ردّه: «نعم يؤمّن الحضور المسيحي لكن على مقدار حجمهم، بما يعني أنهم يأكلوا «درهم عسل على قنطار خشب». في الدورة الانتخابية الأولى «تأكل عسلاً» وفق المناصفة، ولكن في الدورة الثانية سيقولون لك: كل واحد يأخذ على مقدار زنده، أي مقدار الأصوات التي لديه، ونبدأ بـ«العدّ»… ما قصده الرئيس سليمان أن تلك المغامرة ستؤدي إلى إعادة إطلاق العدّاد الذي توقف بإرادة ورغبة مُسلِمتين. وسألهم يومها: هل تريدون أن نعيد إطلاق العداد؟
يُقدّم رئيس الجمهورية السابق مخرجاً للإشكالية المطروحة حول قانون الانتخاب، إذ يعتبر أن الوضع اللبناني، بعد إضاعة سنتين ونصف السنة لانتخاب رئيس للجمهورية، غير جاهز – في غضون ثلاثة أشهر – لإنتاج قانون جديد للانتخابات يتمّ معه تغيير المعايير والمقاييس. المخرَج يتمثل بالذهاب إلى قانون مؤقت على أساس «الأكثري» لولاية قصيرة تمتد إلى سنتين، يجري خلالها العمل على تطبيق بنود «اتفاق الطائف» المعلقة، من مجلس الشيوخ إلى اللامركزية الإدارية إلى تشكيل هيئة وطنية للعمل على إلغاء الطائفية السياسية، مع التفاهم على أننا لسنا في صدد إلغاء المناصفة بل العمل على وضع قوانين تلغي الطائفية السياسية وليس الطوائف، فكما قال ميشال شيحا: «البرلمان اللبناني ليس فقط مجرّد قبّة يجتمع تحتها ممثلو الشعب اللبناني، بل هي قبّة تتحاور تحتها الأديان اللبنانية».
تطبيق «بنود الطائف» مع إقرار الاستراتيجية الدفاعية المعنية بحل مشكلة السلاح خارج إطار الشرعية من شأنه أن يخلق الطمأنينة، ويصبح إقرار قانون انتخاب يتماهى مع روحية «وثيقة الوفاق الوطني» مسألة طبيعية، لا سيما أن قانون الانتخاب يُقرّر مصير البلاد. والقانون الأمثل بالنسبة إليه هو قانون يستند إلى «النسبية الكاملة» مع صوت تفضيلي أو أكثر ضمن دائرة المقترع، إنما ليس على أساس دائرة انتخابية واحدة، بل على أساس 7 إلى 8 دوائر توازن بين عدد النواب في كل دائرة. المقاعد التي تحصدها اللائحة على أساس النسبية تعكس قوة اللائحة السياسية عبر طروحاتها وخطابها السياسي الوطني، فيما الصوت التفضيلي ضمن دائرة المقترع يؤمّن القدر الأكبر من صحة التمثيل، بحيث يتم الدمج بين النسبية والدائرة الفردية المرتكزة على مبدأ «الصوت الواحد للشخص الواحد».
ووفق الرئيس سليمان، فإن المشاريع المقدّمة للقانون المختلط بين النسبي والأكثري، كما يتم طرحها، ساقطة دستورياً، كونها لا تؤمّن «وحدة المعايير» في الترشّح، إذ تقترح ترشيحاً على أساس أكثري وآخر على أساس نسبي، وتُفصّل على قياس مصالح هذه القوى أو تلك. في الأصل، ما يُطرح حالياً من مشاريع على أساس مختلط هو في حقيقة الأمر انتخابات على أساس الأكثري بنسبة 80 في المئة، باعتماد تقسيمات قانون الستين مشوّهة و«مشيطنة»، فيما كانت تقسيمات الستين في الأقضية تؤمّن وحدة وطنية، بحيث أن المسيحي ينتخب المسلم والمسلم ينتخب المسيحي. غير أنه يرى أن إمكانية الذهاب إلى قانون مختلط من دون خرق الدستور ممكنة من خلال اعتماد معايير واحدة، ولا سيما في الترشح، على أن تتم المناصفة بين الأكثري والنسبي في عملية الفرز. لكنه يسأل: هل عندهم الجرأة على ذلك؟
على أن أخطر ما يجري اليوم في البلاد، هو خروج المسيحيين من التعددية. يقول: «كان هدفنا من خلال اعتماد النسبية هو إخراج الطوائف من «الأحادية» أو «شبه الأحادية» أو «الثنائية»، فوقعنا نحن بالأحادية عبر «الحلف الثنائي المسيحي» لخوض الانتخابات، مع تأكيدنا الدائم على أهمية المصالحة بين المسيحيين.
ليست هذه «الأحادية» هي التي أعطت الدور للمسيحيين في هذا الشرق. فدور المسيحيين و«توقيف العدّ» نتجا عن أن المسيحية هي حضارة مميزة في المنطقة العربية، من دون أن يعني ذلك أنها الأفضل بين غيرها. وقد أعطتنا هذه الحضارة دوراً ريادياً في لبنان، دوراً طليعياً لأنها أقرب إلى مبادئ الديموقراطية والتعددية. جاءت المصالحة المسيحية – المسيحية، التي كنا ننتظرها ونهنئهم على إنجازها، لكنه كان من الأفضل ألاّ تُترجم إلى حلف ثنائي. فالمصالحة هي شأن اجتماعي – إنساني حصلت في كل دول أوروبا الشرقية التي حصلت فيها نزاعات، بحيث تمّ إنشاء لجان ومؤسسات ومدارس مهمتها القيام بأنشطة تعزز المصالحة على الصعيد الإنساني. لكن عندما تصبح المصالحة هدفاً سياسياً لفرض الأحادية، فإن ذلك يُضرّ بها، ذلك أن انفراط عقد الحلف السياسي، لأي سبب من الأسباب، سيودي بها، إضافة إلى الضرر الذي تلحقه بالدور المسيحي المعهود ببعده الحضاري. كما أن طَرْح احتساب المسيحيين «كتلة واحدة»، والمسلمين «كتلاً متفرقة» مسألة خطيرة، وخطأ كبير يتعارض مع دور المسيحيين.
ويتوقع سليمان نشوء معارضة مسيحية في المستقبل القريب، سيفرزها الشارع نتيجة الأداء الخاطئ في قانون الانتخاب الذي يصفه بـ«الوبال» على المسيحيين، وإنْ كان يعتقد أن التحالف السياسي غير قادر على الاستمرار بفعل التوجهات السيادية المختلفة بين الفريقين، بدءاً من التدخل في سوريا ووصولاً إلى مقاربة الملفات الداخلية مثل «ملف الكهرباء»، حيث لوّح الدكتور سمير جعجع بإمكانية الانسحاب من الحكومة إذا لم يُؤخذ بطروحات «القوات».
ويعتبر أن الثنائيات أياً كان مذهبها، هي خارج إطار العقد الاجتماعي الذي تشكله «وثيقة الوفاق الوطني»، ولكونها ليست أعلى من التفاهم السياسي بين اللبنانيين المثمثل بـ«اتفاق الطائف» الذي انبثق منه الدستور، والذي ينصّ على كيفية بناء الدولة والجيش وبسط سلطته وتحقيق السلطة القضائية المستقلة، فما يجري راهناً هو تفاهمات على «جوانب» ما نصّ عليه الدستور. ولو كانوا يريدون تفاهماً صحيحاً فلديهم «إعلان بعبدا» الذي ينص على تحييد لبنان، وعلى إعداد استراتيجية دفاعية تنظم «موضوع السلاح» في لبنان. هذا الاتفاق يضيف شيئاً حسّياً، فيما «التفاهمات» تتجنب ذكر المواضيع المهمة، وتُشكّل مظلة للمحاصصة السياسية.
ثمة استنتاج يَخرج به سليمان، الذي «عُـيّر» مسيحياً بأنه ليس رئيساً قوياً ذا قاعدة شعبية، أن الرئيس القوي – وفق توصيفهم – هو إشكالية كبرى في لبنان. فالرئيس اليوم لديه نوابه وهو غير قادر على إنجاز قانون. ويسأل: إذاً، أين القوّة؟ ليجيب: المعايير التي وُضعت لوصف رئيس الجمهورية بالرئيس القوي لا تنطبق، ببساطة، على الواقع السياسي في لبنان.
فقوّة رئيس الجمهورية هي في تطبيق الدستور. الرئيس يتعهد بأن يُرسل مشروع قانون انتخابات إلى مجلس النواب، وعلى كتلته والكتل المتحالفة معه أن تذهب إلى البرلمان. وإذا لم يحصل إقرار للقانون، يكون قام بواجباته الدستورية، ويلجأ عندها إلى تطبيق الديموقراطية التي توجب إجراء الانتخابات على القانون النافذ بمعزل عن اعتراضه عليه. فإجراء الانتخابات يبقى أفضل من عدم إجرائها.
لا لبس لديه بأن الدستور يُجبر رئيس الجمهورية على توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة رغم أنه مرسوم عادي، وعدم توقيعه يُعتبر خرقاً له. برأيه أنه إذا كان الهدف من «عدم التوقيع» هو الضغط لتطبيق الدستور وإجراء إصلاح انتخابي، فهذا شي عظيم، ولكن إذا كان ذلك للوصول إلى فراغ، فليس هناك خيار أمامه بعدم التوقيع. الدستور ينص على أن الانتخابات تجري بمهلة ستين يوماً قبل نهاية الولاية. ولم يترك حرية بإمكان إجرائها أو عدم إجرائها. أما مسألة توقيع المرسوم، فرغم أن القانون يحدده بـ90 يوماً قبل إجراء الانتخابات، فإن أفق التعديل مفتوح. الخطورة تكمن في عدم توقيعه قبل نهاية الولاية، ذلك أن مخالفة قانون تبقى أرحم من مخالفة الدستور، والتي ستؤدي إلى أزمة سياسية ودستورية في البلاد. غير أن الرئيس سليمان يرغب في أن يُبدي اقتناعاً بأن الرئيس عون، الآتي هو الآخر من المؤسسة العسكرية – مدرسة الانضباط، وصاحب الباع الطويل في العمل السياسي، لن يذهب في نهاية المطاف إلى خرق الدستور!